الإصلاح .. يا عبد الفتاح
- عبد الله كمال

- Jun 19, 2024
- 3 min read
يقولون إن "الكُرسي" يُغيّر، و"السُلطة" تُبدِّل أحوال الناس.. هذا صحيح تمامًا، لا جدال فيه، ولكن لا ضير منه.. إذ لو لم يتبدّل الشخص بسبب السُلطة، فإنّه لا يكون عمليًا قد حازها، ولا تكون قوّتها قد أصبحتْ في يده.
لم يكُن عبد الفتاح السيسي جائعًا للنفوذ، أو "مستجد سُلطة"، لكي ننظر إليه بقلق وقد أصبح رئيسًا، لن تُسيطر عليه رغبات الهيمنة، أو ينجرف وراء نوازع سلبية للحُكم. ذلك أنّه كان قائدًا عسكريًا له سِجِلّ، ووزير دفاع نادى عليه الناس لكي يقود ثورتهم، ويترشّح في الانتخابات رئيسًا عليهم.
إن "التبدٌّل الحميد" -الذي أقصده- نتيجة للجلوس على الكرسي، لا علاقة له بتصوّرات البُسطاء حول السُلطة، والأخلاق، والثبات عند الحال السابق على بلوغها.. وإنما أعني أن السُلطة تُتيح لمن يحوزها أفقًا أوسع، وزوايا رؤية أشمل، ومعلوماتٍ أكثر دقة.. فما بالنا إذا كانت تلك هي سُلطة الرئيس في جمهورية مصر العربية.
كان عبد الفتاح السيسي رجلا يعرف الكثير، منذ فترة طويلة، ففضلا عن أنّ الجيش في مصر يتيح للقائد العسكري أن يعرف أكثر كلّما ارتقى لأعلى.. فإنّه كان رئيسا للمُخابرات الحربية، ثُمَّ وزيرًا للدفاع، في واحدة من أصعب فترات اهتزاز السُلطة.. سواء حين كانت في (لحظة انهدام) إبَّان السنة التي حكمها محمد مرسي.. أو حين كانت في لحظة (إعادة بناء) في العام الذي حكمه الرئيس المؤقّت المستشار عدلي منصور.
لكنَّ "المعرفة" ليست مجرّد ملف معلومات، ولا هي فقط تقرير يحوي عدّة نقاط، تنتهي بخاتمة من التوصيات. "المعرفة" نَسق.. ومنظومة علاقات ومعلومات.. وبيئة مُحيطة.. تُنتج الرؤية.. وتُؤدي إلى القرار.. الذي يُمكن ببساطة إدراك أنه يختلف حين يُصدره وزير للدفاع، عن ذلك الذي يصدره رئيس الجمهورية.
الرئيس اليوم أمام حالة مُختلفة، فهو مسؤول عن شعب، ويُدير دولة، كانت لديه خُطة.. ولا بدَّ ستطرأ عليها تعديلات، وكان لديه منهج، وهو ينتوي المُضي به في طريق التطوير.. لا بدَّ أنه سوف يخضع لبعض المرونة.. السُلطة توفّر معرفة أخرى، وقيادة دولة بحجم مصر تضع فوق كاهل صانع القرار، عشرات الأعباء.
في المسافة بين الرؤية المُسبقة والواقع الجديد، يتحدّد من هو الرئيس الذي سيحكم مصر.. وفي المساحة بين الأحلام العريضة وضغوط البيئة وتوازُنات المجتمع، يضع الرئيس نفسه في الحجم الذي يُريده. ولا شكَّ أن حاصل الطرح بين المتغيّرات في المعادلتين، هو الذي كان يُقرر حاضر مصر مع رؤسائها السابقين، وهو الذي سوف يُحدّد مستقبلها مع رئيسها الجديد.
وصل عبد الفتاح السيسي إلى قصر الحكم مملوءًا بالأحلام من داخله، ومعلقة في رقبته الأماني العامة التي تفوق التوقعات من قِبل كلّ المصريين.. وإذا كانت ميزته أنه صارح الناخبين بأحلامه، فإن عيب ذلك، هو أنه أطلق المُخيّلة في ذهن ٩٠ مليون مصري.. كل منهم راح يحلُم ويتمنّى، وينتظر أن يقبض على الأماني..غير أنه ليس معروفا، على وجه اليقين -لدى المواطنين- ماذا عليهم أن يفعلوا بعد التمنّي.
من اللحظة الأولى، أصبح الرئيس مُثْقَلا: أثقال الأماني العريضة، أثقال الواقع المرير، أثقال أحلامه الخاصة، أثقال الحقائق التي تكشف عنها عملية "تسليم وتسلُّم السُلطة".. وقد يكون خيارا مُتاحا في زمن مضى أن يجلس الرئيس مُستريحًا على مقعده، مُوزّعًا الأثقال على جانبيه.. لكنَ هذا لم يعد مُمكنًا، كما أنّه ليس مُتّسقًا مع مواصفات الرئيس عبد الفتاح. إن الخيار الوحيد المقبول هو "توزيع الأثقال".. كلٌ يقوم بما عليه.
في واقع الأمر، إن أخطر مشكلات مصر هو ذلك الخلل في "توزيع الأثقال".. من يتحمّل ماذا؟ ومتى؟ وإلى متى؟ ومُعادلة "توزيع الأثقال" التي تُجسد العلاقة بين الدولة والمواطن، هي الأولى قبل غيرها أن يتمحور حولها "حُلْم" وأن تحاصرها " الأماني".
وهذه المُعادلة، هي التي يجب أن تخضع لأكبر اهتمام من الرئيس والناخبين والمؤسسات.. إذ بناءً عليها، سوف يتحدّد ما إذا كنا جميعًا سوف نتشارك في صناعة المستقبل.. أم سوف يتفرج كلٌ منّا على الآخر، ونعود للتحسر على الأماني بعد سنوات.
جوهر هذه المعادلة هو «الإصلاح».. إصلاح العلاقات.. إصلاح التّوازُنات.. إصلاح المسؤوليات.. ومن ثَم إعادة تعريف الأدوار.. وتوصيف وظائف ومهام الأفراد والمؤسّسات. الإصلاح الذي يقضي على الخلل في معادلة «توزيع الأثقال»، هو المسار الأول الذي يُمكن من خلاله تحقيق الأحلام، وتجسيد الأماني.. ووفقًا له، يقرّر الرئيس موقعه الذي يريده في التاريخ.
كتبتُ قبل أيام أن الرئيس الذي جاءت به «شرعية الاكتساح»، بعد «شرعية الاستدعاء» و«شرعية التفويض» صار عليه أن يسعى إلى «شرعية الإنجاز».. وبينما دخلت الساحة المصرية في عملية «استعراض سياسي وفئوي» مفهومة ومتوقعة من الجميع أمام الرئيس الجديد.. استعراض يمثّل في حقيقته أثقالا جديدة، تُعلّق في عنق الرئيس ورقبة السُلطة..سيكون على الرئيس أن يستثمر «طاقته» و«دَفعة البداية» في شق طريق الإصلاح.. وعبره سوف يتحقّق الإنجاز.
هذا المقال آخر ما كتب الأستاذ في موقع دوت مصر الأحد 8 يونيو 2014 ننشره في ذكرى وفاته العاشرة.




Comments