top of page
Newspapers

البندقية والثروة والتنظيم والايدولوجيا

السلاح والمال والتنظيم والأفكار. هذه هى الركائز الأربع التى تقوم عليها الدولة،أى دولة. لا دولة دون قوة مسلحة، فالدولة فى النهاية هى مؤسسة تحتكر الحق الشرعى فى استخدام العنف. إقامة الدول وإدارتها عملية مكلفة، ولابد من وجود قدر كاف من الثروة لزوم تمويل أجهزة الدولة. الدولة كيان كبير متعدد الاحتياجات والوظائف، لا يمكن لقائد واحد منفردا إدارته، ولا يمكن إدارته كيفما اتفق بمعرفة هواة غير مؤهلين، فإحكام الإطار التنظيمى ضرورى لنجاح الدولة. الدولة ليست شركة اقتصادية ولا هى جماعة مسلحة. الدولة هى مركب سلطة وشعب بكل ما يضمه ذلك من أعداد كبيرة وتنويعات معقدة، وهى لهذا تحتاج إلى أساس أخلاقى وفكرة تبرر وجود كل هؤلاء معا، وتضفى الشرعية على هذا الكيان المعقد.



القوة المسلحة هى تاريخيا العامل الأكثر أهمية فى قيام الدولة. مملكتا الشمال والجنوب فى مصر القديمة تم توحيدهما على يد الملك مينا، ملك الجنوب الذى انتصر فى الحرب ضد الشمال. الغزو هو أهم أساليب قيام الدول. غزوات الإسكندر والرومان والمغول والأتراك والعرب، والتمردات المسلحة للعباسيين والفاطميين والموحدين والأغالبة والمرابطين، كلها حروب اعتمدت على القوة المسلحة لإنشاء الدولة. عدد الدول التى تأسست بالقوة المسلحة أكبر بكثير جدا من عدد الدول التى تأسست بالتراضي. القوة لازمة لتأسيس الدولة، ولازمة للدفاع عنها ضد أعداء الخارج، ولازمة لردع العصاة الطامعين فى السلطة فى الداخل.

القوة المسلحة هى شرط لازم لقيام الدولة والحفاظ عليها، لكنها ليست شرطا كافيا لبقائها وازدهارها. المال هو الركيزة الثانية للاجتماع البشرى والدولة. يفتح الغزاة البلاد ويقيمون الدول مدفوعين بالرغبة فى الفوز بالمجد والسلطة التى يجلبها النصر العسكرى، والثروة والرفاهية التى تجلبها السيطرة على موارد المهزومين. تكالب الغزاة للسيطرة على الأقاليم الزراعية الغنية لما فيها من ثروة، وتاريخ مصر يشهد على ذلك، فيما تركت أقاليم الصحراء القاحلة الممتدة فى الجوار شرقا وغربا لأهلهالأنه لم يكن فيها ما يستحق عناء الغزو. دخل العرب المسلمون مصر، وأمرهم الخليفة عمر بإبقاء الأرض لأهلها يزرعونها، لأنهم أعلم بها، والاكتفاء بتحصيل الخراج لصالح الدولة.

الثروة لازمة لتمويل أنشطة الدولة وجهازها الإدارى والأمنى، ولاستمالة القلوب وشراء ولاءات النخب المتحفزة، ولنجدة المساكين عندما يحل الوباء أو يجف النهر، فيحمد الناس الله ويدعون للسلطان.تنجح الدولة ويتعزز الحكم عندما تزيد ثروة المجتمع، وتزيد معها الضرائب التى تذهب للدولة. يحدث التدهور عندما يجرى إهمال القواعد السليمة لإنتاج الثروة. هذا هو الدرس الذى تعلمناه من الاتحاد السوفيتى السابق، الذى انهار اقتصاديا عندما عجزت الشركات هائلة الحجم المملوكة للدولة عن مواصلة الابتكار والإنتاج بكفاءة تنافس المنتجات القادمة من الغرب.

التنظيم هو القاعدة والركيزة الثالثة للدولة. نوعان من التنظيم ضروريان للدولة، الأول قديم قدم الدولة والحضارة، وهو المتعلق بالجهاز الإدارى الذى يتولى إدارة الدولة. لولا البيروقراطية المصرية القديمة، ويشهد عليها التمثال الشهير للكاتب المصرى، ما قامت الحضارة فى هذا الوادي. فى الصين أقدم دولة وأقدم جهاز بيروقراطى واصل الحياة بلا انقطاع منذ تأسس لأول مرة فى بداية الألف الثانى قبل الميلاد. البيروقراطية القديمة تصبح عبئا ما لم يجر تحديثها لتلائم التكنولوجيا والأفكار الجديدة، ولتخليصها من بقايا تسلط وفساد قديم.

هناك نوع ثان من التنظيم لم يكن معروفا فى الماضى لكنه بات أساسيا منذ القرن التاسع عشر، بعد ظهور الحركات الدستورية والقومية.المقصود هنا هو التنظيم السياسى الذى يشمل النخب والقطاعات المهتمة من الجماهير العريضة. فالتعليم والإعلام وحياة المدينة والاطلاع على ما يجرى فى العالم كلها عوامل تزيد الطلب على المشاركة السياسية، وعلى التنظيم السياسى المعزز للمشاركة. هناك ضرورة لبناء تنظيمات فعالة وذات مصداقية، تنتظم فيها الجماهير وتشارك فى السياسة بطريقة بناءة آمنة، بدلا من ترك المجال خاليا تزدهر فيه تنظيمات ذات أجندات خفية.

الفكرة هى الركيزة الرابعة للدولة والعمران البشري. المواطنون فى الدولة ليسوا جمعا من الناس التقوا بالصدفة فى رحلة خلوية ينصرف كل منهم بعدها إلى حال سبيله، ولا هم عمال مهاجرون يربطهم عقد مكتوب مع صاحب العمل فى بلد غريب.علاقة المواطن بدولته ووطنه أكبر وأعقد من علاقة المواطن بشركة يعمل فيها، أو ببيت يستأجره للسكنى.المواطن يفخر بهويته ويدفع الضرائب ويدافع عن الوطن ويصوت فى الانتخابات ويطيع السلطة،مدفوعا بشعور بالمشاركة فى ملكية الوطن، وبالمسئولية عن مصيره، ولابد من وجود فكرة وعقيدة تلهمه القيام بكل ذلك برضا وعن طيب خاطر.بعض الأفكار والعقائد السياسية هى مواد ملتهبة شديدة الخطورة، تروج للفوضى والعنف والعنصرية، ولا يدحرها سوى ملء ساحة العقائد السياسية بأفكار ذات مصداقية تعزز الوطنية والمواطنة والمشاركة والنزاهة والعدالة والتنمية. علمتنا عاصفة يناير أن إخلاء ساحة الأفكار والعقائد قدم للإرهابيين فرصة ذهبية للسيطرة على عقول وقلوب أبرياء كثر.

تتأسس الدول وتزدهر وتستقر معتمدة على مزيج متوازن من الركائز الأربع، فما إن يضعف واحد من هذه القواعد إلا وتبدأ علامات الاضمحلال فى الظهور. قد تعوض وفرة المال النقص فى الأفكار، وقد تعوض البنادق نقص الأموال وضعف التنظيم. المهم أن يجرى ذلك بحساب، وأن يتم تدارك أوجه النقص فى أقرب فرصة، فبعض النقص ممكن لكن فقط لبعض الوقت.

نقلا عن الاهرام



 انضم إلى قائمة عالم جديد البريدية لتصلك كل المقالات  

شكراً علي الاشتراك

Hebrew Prayer Books_edited.jpg

ترشيحات كتب من محمود

bottom of page