top of page
Newspapers

الحملة الوطنية ضد الغش

واقعة إزالة لوحات فنية من إحدى محطات مترو الأنفاق بسبب عدم أصالتها دلالات شديدة الأهمية. الواقعة فى حد ذاتها ليست كبيرة القيمة، لكن المهم فيها هو أنها تلفت نظرنا إلى ظاهرة أكثر خطورة منتشرة فى مؤسساتنا الأكاديمية والتعليمية والإعلامية،مستندة إلى ثقافة شعبية واسعة الانتشار، وأقصد بها ظاهرة الغش العلمى.



لو بدأنا القصة من الأسفل، من جهة المجتمع، فسنجدالغش فى الامتحانات ظاهرة واسعة الانتشار.لا يكاد يمر يوم من أيام موسم الامتحانات بغير خبر أو أكثر عن وقائع الغش وتسريب الامتحانات ونشرها مع إجاباتها على شبكة الإنترنت، باستخدام تقنيات وأساليب مختلفة. يحدث الغش فى الامتحانات المركزية، كما يحدث على المستوى المحلى طوال الوقت فى امتحانات مختلفة. يخرج الطلاب من الامتحانات ليتبادلوا الحديث مع أهاليهم وزملائهم عن اللجنة، وما إذا كانت صعبة أو سهلة، والمقصود هو ما إذا كان المراقبون يسمحون بالغش أم يتصدون له.

الغش فى الامتحانات هو وجه آخر لظاهرة الاستهانة بقيمة الإبداع والأفكار والإنتاج الذهنى. من الشائع أن يدفع الواحد منا آلاف الجنيهات لشراء كمبيوتر حديث، بينما يقوم بتزييف رخصة استخدام نظم التشغيل والتطبيقات التى بدونها يصبح الكمبيوتر الجديد معدوم القيمة. الاعتداء على حقوق الملكية الفكرية عبر تزييف الكتب ونسخها ونشر أفلام السينماعلى شبكة الإنترنت بغير موافقة أصحابها، كل هذه مظاهر لضعف تقدير الأفكار والإنتاج الذهنى.

الأصل فى هذه الممارسات هو استحلال الاستيلاء على الأفكار والمعارف والمجهود الذهنى، ومقبولية أن ينسب الفرد لنفسه أفكارا ليست له. فالطالب الذى يحصل على درجات بطريق الغش، هو فى الحقيقة حصل على درجات ليست من حقه، ولكن الثقافة السائدة لا ترى فى هذه الممارسة سرقة. السرقة فى ثقافتنا هى عندما تأخذ الشيء من صاحبه فتحرمه منه، كأن تسرق سيارته أو نقوده، فتتركه بلا سيارة أو نقود. سرقة الأفكار والمجهود الذهنى موضوع مختلف، فسارق الأفكار لا يحرمك من أفكارك، هو فقط يشاركك فيها، ويحولها من إنتاج وإبداع فردى إلى ملكية مشاع، وفى ثقافتنا ما يسوغ اعتبار هذا نوعا من التعاون والتضامن المحبب. سارق الأفكار يحرمك من التميز والريادة، غير مدرك أن الإبداع والابتكار، وليس الأفكار الشائعة المكررة، هما الأساس الذى يقوم عليه التقدم الحضارى والنمو الاقتصادى.

نقص الإبداع واللجوء السهل للاقتباس والغش نجده واضحا على شبكة الإنترنت. لو بحثت باللغة العربية عن أى موضوع أو اسم مشهور، ستجد عددا كبيرا من المواقع المختلفة تتناول هذا الموضوع. اقرأ الموضوع الأول منها، وبعده اقرأ الموضوعات الأخرى، فستندهش، أو فى الحقيقة ستصاب بالصدمة أو الملل، عندما تتبين أن أغلب المواقع ليست إلا نسخا مباشرا أو سرقة صريحة من الموقع الأول. طبعا لن يكون من الممكن أن تعرف من الذى سرق من من، لكن المهم أن طاقتنا على الإبداع والتفكير والإضافة لا تزيد على الموضوع الأول، أما باقى الموضوعات فهى مجرد اعتداءات من جانب أشخاص قرروا الاسترزاق على حساب صاحب الموضوع الأول الذى بات يصعب التعرف عليه. لن تجد شيئا كهذا لو بحثت عن أى موضوع باللغة الانجليزية. فكل موقع جديد تزوره ستجد فيه معلومة أو فكرة جديدة تميزه عن المواقع الأخرى.

لو ذهبنا إلى الجامعات فسنصادف الغش العلمى فى إعداد الأبحاث والرسائل العلمية. استعارة الأفكار وإعادة إنتاجها ومزجها بشكل يخلو من الأصالة هى ممارسات ليست غريبة عن أقسام الإنسانيات والعلوم الاجتماعية فى مؤسساتنا الأكاديمية. أما فى الكليات العملية فليس من النادر أن يتم تظبيط البيانات، بمعنى فبركتها، بحيث تؤكد النتيجة التى يريد الباحث الوصول إليها، فالمهم هوإحكام التظاهر بأن التجربة قد تم تنفيذها، وأن البيانات تم جمعها بدقة. وصلت الجرأة ببعضهم إلى القيام بنشر أبحاث مفبركة بنفس الطريقة فى مجلات علمية طبية مرموقة، غير أن تقنيات المراجعة وإعادة البحث والتقييم بعد النشر كشفت الزيف، فتم إلحاق الضرر بسمعة مؤسسات أكاديمية. الاحتفاء بالنشر الجامعى عندنا يرتبط، فى أحيان كثيرة، بكونه شرطا للترقى الوظيفى. النشر الجامعى فى البلاد المتقدمةهو أيضا ضرورى للترقى الوظيفى، ولكنه يفعل ذلك فقط بعد أن يكون قد أضاف معرفة مفيدة وأصلية، وهذا هو أحد الشروط المهمة للتقدم.

بالقرب من كل جامعة مصرية يوجد حى النسخ والطباعة الذى يخدم طلاب الجامعة، حيث يتم نسخ وطباعة كل شىء، وأيضا تدبيح الأبحاث لزوم استكمال متطلبات النجاح. عندما طلبت وزارة التربية والتعليم من طلاب المدارس تقديم الأبحاث بديلا عن الامتحانات التى تعذرعقدها بسبب وباء كوفيد 19، لجأ عدد كبير من الطلاب بمساعدة أولياء الأمور للمكتبات، التى أضافت إلى تخصصاتها وظيفة جديدة هى إعداد الأبحاث اللازمة للنجاح. وفرت التكنولوجيا الحديثة تطبيقات تكشف عن الغش فى كتابة الرسائل العلمية والأبحاث، وقدم هذا حلا لمشكلة السرقات العلمية فى الأبحاث الجامعية، لكن فقط لبعض الوقت، فقد ظهرت بعد فترة قصيرة تطبيقات جديدة تقوم بتكييف طريقة كتابة المادة العلمية المسروقة لتبدو وكأنها أصلية. التكنولوجيا ليست هى المشكلة، فالتحدى الأكبر الذى يواجهنا هو عدم وجود طلب مجتمعى كاف على الأصالة والإبداع، فى مقابل الطلب الكبير على النجاح، حتى لو بطريق الغش.

للظاهرة التى نتحدث عنها جوانب عدة، ومخاطر كثيرة على الأخلاق والاقتصاد والإبداع، ولا بد من حملة وطنية، تتكاتف فيها جهود وزارات ومؤسسات عدة للحد منها، بدءا من المدرسة ودور العبادة، وصولا إلى الإعلام والجامعة.


نقلا عن الاهرام

https://gate.ahram.org.eg/daily/News/864970.aspx

 انضم إلى قائمة عالم جديد البريدية لتصلك كل المقالات  

شكراً علي الاشتراك

Hebrew Prayer Books_edited.jpg

ترشيحات كتب من محمود

bottom of page