السياسة علم وفن
- د.جمال عبد الجواد

- Jan 27, 2022
- 3 min read
رغم فورة التكنولوجيا وعلوم الحياة والفنون البصرية والسمعية فإن أقسام العلوم السياسية آخذة فى الانتشار فى جامعات العالم، بينما يتزايد الإقبال على دراسة السياسة فى كل مكان، بما فى ذلك مصر. فبعد أن كان لدينا قسم واحد للعلوم السياسية فى جامعة القاهرة، تم فتح أقسام وكليات لدراسة علوم السياسة فى جامعات القناة والوجهين البحرى والقبلى وبعض الجامعات الخاصة، فهل تنتظر حياتنا السياسية طفرة كبرى عندما تقدم كل هذه الأقسام والكليات خريجيها إلى المجتمع؟
يذهب الطلاب إلى الجامعات ليس لدراسة السياسة، ولكن لدراسة العلوم السياسية، كما لو أن السياسة عندنا ليست علما واحدا، على عكس الحال فى جامعات الغرب حيث يطلقون عليه علم السياسة، وكأن ما نراه عندنا متعددا يراه الغربيون علما واحدا متكاملا ومترابطا. نبرر تعددية علوم السياسة عندنا بأن دراسة السياسة تشمل مجالات مختلفة، مثل العلاقات بين الدول، ونظم الحكم، والعقائد السياسية، والسلوك السياسى للأفراد، وهى أشياء مختلفة جدا عن بعضها البعض. الغربيون من جانبهم يركزون على ما هو مشترك بين كل هذه المجالات، والمتمثل فى السلطة والقوة والمصلحة، ويرون فى وجود هذه الأشياء المشتركة سببا كافيا لاعتبار السياسة علما واحدا يدرس السلطة والقوة والمصلحة فى تجلياتها المختلفة، مرة فى العلاقات بين الدول، ومرة فى النظام السياسي، ومرة ثالثة فى الفكر السياسي، ومرة رابعة فى سلوك الأفراد، وهكذا..
لو أن دارسا للسياسة قرأ كل الكتب، ودرس كل حرب وكل اتفاق سلام وكل انتخابات وكل حزب سياسي، فلا يوجد ضمانة بأن هذا التلميذ النجيب يمكنه اتخاذ القرار السليم فيما إذا كان على بلده شن حرب على الجار المعادي، أم أن من الأفضل عقد معاهدة سلام معه. دارس السياسة يعرف جيدا ما حدث فى الماضي، غير أن معرفة الماضى فى حد ذاتها ليست كافية لتقرير شئون المستقبل، فهذا اختصاص السياسى ووظيفته.بإمكان دارس السياسة تبصير السياسى بالاحتمالات المختلفة التى قد يتطور إليها موقف ما، لكنه لا يستطيع أن يحل محله فى اختيار المسار الذى يجب عليه السير فيه، فالمسئولية يتحملها السياسي، بينما يكتفى الدارسون بتقديم الرأى والنصيحة.
لو أجريت مسحا للممسكين بالسلطة فى بلاد العالم، فستجدهم يأتون من خلفيات مختلفة، مهندسين وقانونيين واقتصاديين وأطباء وعسكريين، لكنك لن تجد فيهم سوى عدد محدود من دارسى السياسة. ممارسة السياسة تحتاج معرفة وعلما، لكنها تحتاج إلى الكثير من الموهبة والتأهيل النفسى والتدريب فى الميدان خارج قاعات الدرس. على العكس من ذلك، فإن ممارسة مهن الطب والهندسة والفيزياء والبيولوجى مستحيلة لغير دارسى هذه العلوم، التى يوجد اتفاق على أنها علوم وفقط، ليس فيها من الفن والموهبة الكثير، فهى علوم تتطابق فيها المعرفة مع الممارسة بشكل كامل.
السياسة علم أم فن، أم أنها علم وفن فى آن معا؟
السياسة فن يمارسه السياسيون، يمكن دراسته بطريقة علمية، فيتحول إلى علم، أو شبه علم. الأصل فى السياسة هو ممارستها، فالسياسى يأتى أولا ثم يأتى بعد ذلك دارسو السياسة وعلماؤها. السياسى يتصرف بتلقائية، بقليل من الدراسة، وإن أفاده التدريب خاصة عندما يأتى فى مراحل العمر المبكرة. يركز دارس السياسة عينيه على ممارسى السياسة فى الحكومة والبرلمان والانتخابات والمحليات والأحزاب والنقابات، يلاحظهم بدقة، يرصد ما يقولون ومتى يقولونه. يحاول فهم دوافعهم ومبررات قراراتهم. يبحث فى تصرفاتهم عن الأشياء التى تتكرر، فيحولها إلى استنتاجات وقوانين عامة تشرح وتفسر السلوك السياسى فى مجتمعه والمجتمعات الأخرى.
دارس السياسة ينتج أفكارا، بينما السياسى ينتج قرارات. قد تكون الأفكار مبهرة، لكن كثيرا من الأفكار المبهرة يصعب تحويلها إلى قرارات وسياسات وواقع حي. السياسى لا يهتم بمثل هذه الأفكار، فهو يهتم فقط بالأفكار ذات القيمة العملية. بعض أفكار الدارسين قد تصبح معاول هدم حال وقوعها فى يد سياسيين انتهازيين خبثاء، فيجد الدارس نفسه متورطا فى صراعات السياسيين بقصد أو بغير قصد. السياسيون أهل عمل، بينما الدارسون أهل نظر، بينهم الكثير من الاختلافات، لكن الأمور تكون أفضل كثيرا عندما يتكاملون.
ماذا يفعل دارسو السياسة عندما تتزايد أعدادهم بينما تتناقص أعداد السياسيين وتقل المناسبات السياسية الجديرة بالملاحظة؟ عندها يكف دارسو السياسة عن الملاحظة، ويكتفون بترديد المعارف والحكمة والقديمة، ويكثرون من قراءة ما يكتبه دارسو السياسة فى بلاد أخرى، ويعيدون تقديمه إلى القراء والمهتمين فى بلدهم، كما لو كانت الاستنتاجات المأخوذة من بلد آخر صالحة للتعميم فى بلادنا، فيكف الدراسون عن إنتاج الأفكار، ويتحولون إلى مستوردين لها، وتتسع الهوة بينهم وبين مجتمعهم واحتياجاته وثقافته وظروفه.
لو اختفى السياسيون لانعدمت الحاجة لدراسة السياسة.فهل يمكن للسياسيين أن يختفوا؟ وهل يمكن لحاجة المجتمع للسياسيين أن تنتهى؟ ما هى الوظيفة التى يؤديها السياسيون فى المجتمع؟ وهل يخسر المجتمع باختفائهم؟ ماذا لو بقى السياسيون لكن تراجعت قدراتهم ومهاراتهم؟ فى كثير من دول العالم، بما فى ذلك فى الديمقراطيات الغربية، تنمو المشاعر السلبية تجاه السياسيين، الذين يراهم الناس بشكل متزايد فاسدين، زائدين على الحاجة، أنانيين، يسعون لمصالحهم الخاصة، فهل يوجد فى هذه المجتمعات عدد من السياسيين يزيد على الحاجة؟ وهل ستكون هذه المجتمعات أفضل حالا لو أن فيها عددا أقل من السياسيين؟ وهل المسألة فى عدد السياسيين أم فى نوعيتهم؟ وما هو السبيل لتحسين نوعية السياسيين وجودتهم؟ أسئلة يمكن للدارسين المساهمة فى الإجابة عنها.
نقلا عن الاهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/News/841157.aspx




Comments