top of page
Newspapers

النخبة والنهضة والتنمية

النخبة هى أساس التقدم، وهى القاطرة التى تجر وراءها المجتمعات والبلدان. لا يمكن للتقدم أن يحدث إذا غابت النخبة. الأمم القادرة على مواصلة التقدم باستمرار، وعلى النهوض مجددا بعد السقوط، هى الأمم التى لديها مجتمعات قادرة على إفراز، وإعادة إفراز، نخبة ذات جودة عالية، قادرة على قيادة الأمة نحو التقدم.

النخب موجودة فى كل جوانب الحياة، فهناك نخب ثقافية وسياسية واقتصادية وتكنوقراطية ودينية، وهى العدد القليل من الناس، من أصحاب المواهب والمعرفة والثروة والسلطة الذين يتصدرون كل مجال من هذه المجالات. القول بأولوية النخبة ليس بديلا عن التفكير فى محركات التطور الإنساني، فالدور الرئيسى للنخبة لا ينفى أثر العوامل الأخرى فى تشكل المجتمعات. فالقول بأن الاقتصاد هو محرك المجتمع والتاريخ يمنح النخب الاقتصادية المسيطرة على الثروة موقعا قياديا فى تطور وتغير المجتمعات. والقول بأن الأفكار هى محرك التاريخ يمنح النخب الثقافية، التى تتولى إنتاج الأفكار والترويج لها، مكانة قيادية فى تطور وتغير المجتمع. والقول بأن التكنولوجيا هى محرك المجتمعات يمنح للنخب المنتجة للتكنولوجيا علميا، والمساندة لها ماليا، مكانة مهيمنة على عملية التغير الاجتماعي.

وبما أن النخب هى الفاعل الرئيسى فى عملية التقدم، فإنها أيضا مسئولة عن تخلف الأمة أو فقرها أو انقسامها. فبما أن النجاح ينسب للنخبة، فإن الفشل أيضا ينسب لها، حتى لو حاولت النخب الفاشلة اختلاق الأعذار، والبحث عن كبش فداء، وتحميل المسئولية للوعى الشعبى الناقص، أو لتدخلات القوى الأجنبية، أو لنقص الموارد الطبيعية. هناك دول فاشلة، ولكن الدولة الفاشلة هى فى حقيقتها تعبير عن نخب فاشلة. قبل القرن التاسع عشر لم يكن الحديث عن نخبة فى المجتمع المصرى أمرا ممكنا، حيث كان الحكم فى يد الأتراك والمماليك، وهم معا يشكلون جماعة عرقية متخصصة وظيفيا، مصدرها خارجي، تتكون وفقا لآليات ليست ذات صلة بالمجتمع. تخصص المماليك والترك فى وظائف الحرب والحكم، وتميزوا عرقيا وثقافيا عن أهل البلاد. بدأت النخبة المصرية فى التكون لأول مرة فقط فى القرن التاسع عشر، عندما بدأت جماعة الحكم التركية المملوكية فى الانفتاح على أولاد البلد، وعندما كفت هذه الجماعة عن أن تكون خارجية تماما عن المجتمع، فظهرت آليات اجتماعية تسمح بالدخول إلى الجماعة المميزة،وهنا فقط أصبح من الممكن الحديث عن نخبة مصرية. هذا هو ما حدث منذ عصر محمد على باشا، وهذا هو سبب الأهمية الكبرى لهذا العصر.

حداثة تكوين النخبة المصرية، وحداثة خبراتها جعلت منها نخبة هشة، ذات تكوين تاريخى ضعيف، غير آمنة على موقعها الاجتماعى المميز، تفتقد آليات التضامن الاجتماعى والسياسي.المفارقة هى أن مصر ككيان جغرافي، وكشعب ومجموعة سكانية هى بلد عريق جدا يضرب جذوره فى أعماق التاريخ. لكن النخب المصرية لا تتمتع بنفس القدر من العراقة المميزة للمجتمع المصري. فمصر أكبر كثيرا بتاريخها وعراقتها وحضارتها من نخبها، وهذا هو واحد من التناقضات المميزة للخبرة المصرية.

إن تاريخ مصر الحديث هو تاريخ ميلاد وصعود وهبوط النخب المصرية.فعبر قرنين من الزمان توالت على البلاد عدة تكوينات للنخبة المصرية، أما سبب التعثر المتكرر للنهضة المصرية فيرجع إلى ضعف وهشاشة النخب المصرية، وسقوطها المتكرر فى دورات زمنية تكررت بشكل شبه منتظم، بما منع الاستمرارية والتراكم فى بناء النخبة ونهضة الأمة.

القول بأهمية النخبة لا يعبر عن موقف معاد لبسطاء الناس، ورافض للديمقراطية. وربما كان من المفارقات أن تأسيس النظام السياسى الأمريكي، وهو واحد من أهم الديمقراطيات فى العالم، جاء على يد قادة سياسيين من المؤمنين بدور القلة المميزة، وبالتوزيع غير العادل للمعرفة والفضائل بين الناس. وبوجه خاص، فإن جيمس مادسون وألكساندر هاملتون، من بين الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية، ومن أهم المسهمين فى كتابة الدستور الأمريكي، صاغوا المواد الدستورية المتعلقة بالكونجرس والمحكمة الدستورية العليا، لتركيز السلطة فى يد الحراس المختارين من أجل حماية مصالح عموم الناس، والقادرين على القيام بذلك بأكثر مما يستطيعه العوام.

وجه المفارقة هنا هو أن النظام الذى تم تأسيسه وفقا لفلسفة نخبوية قد أصبح واحدا من أهم الديمقراطيات فى العالم. غير أن النتيجة الأهم المترتبة على هذا هى أن النظرية النخبوية ليست بالضرورة نظرية معادية للديمقراطية، على العكس فإن النظرة النخبوية تسمح بتأسيس نظام ديمقراطى فعال، فمبادئ فصل السلطات والتحجيم والتوازن الذى يقوم عليه النظام الديمقراطى هى مبادئ يتم تصميمها لتنظيم التنافس بين نخب سياسية. وليس خافيا أن نظم الحكم المغلقة، التى تمكنت فيها النزعة السلطوية، هى نفسها النظم التى تغنت أكثر من غيرها بالشعب وفضائله ودوره القيادى الملهم.

انشغل علم السياسة،فى البلاد الغربية المتقدمة، بمسألة السلطة، مصدرها، وشرعيتها، واقتسامها، وتوازنها. أما فى البلاد النامية فإن التنمية هى القضية المركزية، كيف تتحقق، ولماذا تتحقق فى بلاد ولا تتحقق فى أخرى، وما هى أفضل السبل لتحقيقها. فإذا كان سؤال النخبة فى السياق الغربى هو سؤال يتعلق بالسلطة، فإن سؤال النخبة فى سياق العالم النامى هو سؤال يتعلق بالتنمية. فالسؤال الرئيسى لنظرية النخبة فى العالم النامى هو ما هى الشروط النخبوبة لتحقيق التنمية، أو ما إذا كانت هناك خصائص محددة للنخب القادرة على تحقيق التنمية.

نقلاً عن الأهرام اليومي

https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/869348.aspx


 انضم إلى قائمة عالم جديد البريدية لتصلك كل المقالات  

شكراً علي الاشتراك

Hebrew Prayer Books_edited.jpg

ترشيحات كتب من محمود

bottom of page