top of page
Newspapers

تحرش فوق هضبة الهرم

Updated: Aug 21, 2022

توقفت كثيرا عند واقعة تحرش مجموعة من الصبية المراهقين بسائحتين قادهما حظهما العثر لزيارة منطقة الأهرام يوم العيد. الواقعة تقول لنا الكثير عن مجتمعنا، وتدعونا للاعتراف بأشياء نميل لتجاهلها وإنكارها. الفتيان المراهقون فوق هضبة الأهرام محرومون من فضيلة احترام الآخر ومراعاة خصوصيته. لا يحمل الصغار أى معنى لحقوق الآخرين. الصغار جبناء يستقوون بكثرتهم، ويتخذونها ستارا للعدوان والتهرب من تحمل المسئولية الفردية. فى الصغار أنانية تزين لهم الانشغال بمتعتهم الخاصة حتى لو تسبب ذلك فى إيلام الآخرين. لا يحمل الصغار أى معنى للمصلحة العامة التى ألحقت فعلتهم بها ضررا جسيما. أشك فى أن الوطنية والمصلحة العامة للوطن، اقتصاده وسمعته وصورته، هى قيم ذات دلالة لدى هؤلاء الصبية.



انحرافات المراهقين مشكلة تواجه كل المجتمعات، وهى تظهر فى كل مجتمع بطريقة تناسب ثقافته. هل يمكن تصور أن ما حدث فوق هضبة الأهرام يمكن أن يحدث فى معبد أكروبوليس فى أثينا، أو فى شارع شانزليزيه السياحى فى باريس، أو فى معبد الكرنك بالأقصر؟ هناك شىء ما فى ثقافة أهل القاهرة ومدن مصرية كبرى، خاصة فى وجه بحرى، يشجع الشبان الصغار على التحرش واستعراض القوة والبلطجة. هل للأمر صلة بانتشار العشوائيات فى المناطق الحضرية الكبرى، وهل تطوير العشوائيات يمهد لمعالجة هذه المشكلة؟ ربما.

لاحظ أن كل واحد من هؤلاء الفتية قضى بين ست وعشر سنوات فى المدرسة. ماذا رأى هؤلاء الفتية فى المدرسة وماذا سمعوا من الاشياء التى تزين لهم التصرف بهذه الطريقة؟ ما الذى يحدث فى الأحياء التى نشأ فيها هؤلاء الفتيان حتى يظنوا أن ما فعلوه بالسائحتين أمر مقبول؟ ما هى النماذج التى يعتبرها هؤلاء الفتيان قدوة لهم؟ ما هى الأفلام والدراما التى يفضلونها، وهل أسهمت هذه الدراما فى تشجيعهم على التصرف بهذه الطريقة، وهل صحيح ما يظنه البعض من ان بعض انواع الدراما، بدءا من مدرسة المشاغبين وصولا إلى عبده موتة، تروج لسلوكيات منحرفة؟

التحرش بالسائحات فى الأهرام ليس حادثا منفردا نرد عليه بمعاقبة المتحرشين، بل هو ظاهرة تتكرر طوال الوقت، تحتاج إلى علاج، وليس فقط إلى عقاب. هناك ثقافة فرعية لمهمشين معادين للمجتمع، يتحينون الفرصة لاختطاف ما قد تصل إليه أيديهم. إنها ثقافة استقواء وتنمر، تزداد شراسة كلما زادت الضحية ضعفا. النساء الأجنبيات من السائحات هن من أضعف الفئات وأكثرها إغراء للمعتدين. الصفحات والمواقع السياحية المتخصصة تفيض بتعليقات ومقالات تشكو فيها سائحات زرن مصر من معاناتهن مع التحرش فى بلادنا.هل يمكن لسائحة تعرضت للتحرش فى شوارع القاهرة أن تعود لبلادنا مرة أخرى، أو أن توصى صديقاتها بزيارة مصر؟

قارن بين ما فعله المراهقون فى منطقة الأهرام، وما حكته سيدة فاضلة عما فعله صبية فى نفس أعمارهم فى مدينة أوروبية. كان المراهقون الأوروبيون يتقاذفون الكرة بالقرب من مقهى مفتوح جلست عليه سيدة تتناول مشروبا. أخطأ أحدهم الكرة، فأصابت الطاولة التى جلست إليها السيدة، فانسكب المشروب وانكسر الكأس. توجه المراهقون إلى السيدة، اعتذروا لها، وقاموا بجمع الزجاج المكسور وتنظيف الأرضية، واشتروا للسيدة مشروبا بديلا. لو أن شيئا مثل هذا حدث عندنا لجرى الفتيان هاربين، رافضين تحمل المسئولية عن فعلتهم، ولقامت السيدة بصب اللعنات على المراهقين عديمى التربية، وربما قام الأكثر جرأة ووقاحة من الفتيان بتبادل السباب مع السيدة الضحية.

قل لى كيف تتصرف تجمعات المراهقين فى بلد ما، أقول لك ما هو حال الأمة وثقافتها. هل ما يحدث من صبية مراهقين عندنا يمكن له أن يحدث فى بلد أوروبى أو فى اليابان.المراهقون يتلقون قيمهم وثقافتهم من البيئة المحيطة، والأرجح أن فى البيئة المحيطة بكثير من المراهقين عندنا ما يسوغ لهم التصرف بهذه الطريقة المشينة. يميل المراهقون للمغامرة واختبار الحدود التى يمكن أن يذهبوا إليهم فى تحررهم من الضوابط، ولكنهم يفعلون ذلك انطلاقا من خبرتهم فى البيئة المحيطة. المراهقون المتحرشون فى الأهرامات لم يتصرفوا من عندياتهم، فالأرجح أن تصرفهم جاء متأثرا بما يفعله ويقوله الكبار فى محيطهم الاجتماعى.

لا أقول إن كل المصريين يتصرفون بهذه الطريقة، ولا أقول إن القيم الرديئة التى عكست نفسها فى سلوك المراهقين فى منطقة الأهرامات هى قيم عموم المصريين، لكننى أزعم أن لدينا بعضا ممن يتحلون بهذه الثقافة.

ربما كان فى الصورة المرسومة هنا بعض المبالغة، لكنها مبالغة ضرورية لإيضاح تفاصيل الواقع ولفت الانتباه لمصدر الخطر، فما أتحدث عنه هنا هو نفس القيم التى تقف وراء الغش الجماعى، والسباب البذىء والعنف فى ملاعب كرة القدم، والتنمر والعنف اللفظى على مواقع التواصل الاجتماعى، والتحرش بالنساء فى الأماكن العامة، ومطاردة السياح لإجبارهم على شراء سلعة أو القيام بجولة قصيرة على ظهر جمل أو حصان.

هناك أبحاث قام بها علماء الاجتماع والتربية وعلم النفس لدراسة قيمنا الثقافية والأخلاقية وكيفية تأثر المراهقين بها، لكنها دراسات قليلة تحتمل المزيد من الجهد والعمل؛ وتتجاوز الركون للسهل من الأبحاث اللازمة للترقيات، لا لإنتاج معرفة تضيف للعلم وتفيد المجتمع.


 
 
 

Comments


 انضم إلى قائمة عالم جديد البريدية لتصلك كل المقالات  

شكراً علي الاشتراك

Hebrew Prayer Books_edited.jpg

ترشيحات كتب من محمود

  • RSS
  • Facebook
  • Whatsapp
  • Linkedin
  • Instagram
  • Pinterest
  • Youtube
  • Twitter
  • Spotify

جميع الحقوق محفوظة - محمود ابراهيم ٢٠٢٤ - تطبق الشروط والاحكام 

bottom of page