صناعة القرار السياسي في مصر ٢
- محمد حسنين هيكل

- Feb 21, 1986
- 17 min read
Updated: Sep 5, 2022
على عتبة هذا الحديث الثانى عن عملية "صنع القرار السياسى فى مصر"، أريد أن أقول - وبغير مفارقة للواقع أو استغراق فى التمنى - إن مصر ما زالت حتى هذه اللحظة بخير قلبها سليم، وكذلك روحها وإرادتها.
دليلى على صحة هذه المقولة هو ما تعيشه مصر الآن من فوران يبحث ولا يكل من البحث عن توصيف وحلول للمشاكل، ومخارج ومنافذ من وسط المصاعب، ثم كل هذه المناقشات الدائرة على أرضها والمتزاحمة فى أجوائها.
شعبها كله مشغول بها، لا يرضيه مجمل أحوالها، ويرى - ببساطة - أن ما لديه أقل مما يستحق، وربما أقل مما يستطيع.
وقد يبدو لأول وهلة أن هذا الدليل الذى قدمته ليس دليلاً بالنفى وليس دليلاً بالتأكيد - وفى ذلك شىء من الحقيقة، لكنى أريد أن ألفت النظر إلى أن النفى ليس سلبياً دائماً وقد يكون إيجابياً فى بعض الأحيان.
ولنقل - لمجرد تجسيد الصورة - إن أحوالنا تشبه أحوال جيش ليست لديه الدبابات التى يقتحم بها طريقه إلى أهدافه، وليست لديه الطائرات التى تحمله إلى بعيد، وليست لديه الصواريخ التى يوجهها عبر الفضاء.
لكن هذا الجيش لديه المدافع المضادة للدبابات تمنع الآخرين من اقتحام خطوطه، ولديه المدافع المضادة للطائرات تصدهم عن سمائه، ولديه الصواريخ تلاقى صواريخهم قبل دخول آفاقه.
لنقل إنه جيش فى موقف دفاعى، لا يستطيع فى هذه الساعة أن يزحف إلى مطلبه، لكنه ما زال قادراً حتى هذه الساعة على أن يدافع عن نفسه.
فإذا تركنا الصورة وتجسيد الصورة وعدنا إلى الأصل ذاته، فسوف نجد أن فى مصر مشاكل - نعم، وإن مجمل أحوالنا لا يرضينا - نعم، وإن ما لدينا أقل مما نستحق - نعم.
ذلك كله صحيح، لكن الصحيح أيضاً أننا لا نستسلم لحصار ما يحيط بنا، ثم إننا لا نترك أنفسنا للوهم يخدعنا عن حقائق أمورنا، ولا تنخلع قلوبنا من الخوف قبل أن تدهمها دواعيه الفعلية.
نحن نبحث وأحياناً لا نصل، ونحن نتحرك وأحياناً نزل، ونحن نناقش وأحياناً ندور حول أنفسنا وحول المشاكل - وهذا كله دليل سلامة قلب وروح وإرادة..
المهم أننا أحياء، وأننا متمسكون بالحياة نعرف قيمتها وقدرها.. والمهم أيضاً أننا لا نسكت، ولا نكتم، ولا نقبل لعيوننا أن تتحول إلى قطع من زجاج تلمع بغير نبض لأنها خرساء لا تعبر ولا تبوح!
شاغلنا جميعاً فى هذه اللحظة هو البحث عن نقطة البداية الصحيحة للخروج مما نحن فيه. همنا جميعاً سؤال واحد يسبق غيره: "من أين نبدأ؟
ورجحت فيما قلت فى الأسبوع الماضى أن نقطة البداية الصحيحة هى عملية "صنع القرار السياسى" وقبل غيرها، وشرحت أسباباً أهمها كما يلى:
- أن كل سياسة قرار بمقدار ما أن كل قرار سياسة وبالتالى فإن عملية صنع القرار السياسى دقيقة وحساسة وهى فى الظروف الصعبة تحتاج إلى دقة أكثر وإلى حساسية أشد، فما كان يمكن احتماله فى ظروف عادية يصبح غير محتمل فى ظروف استثنائية.
- أن العمل فى كل المجالات مهما تنوعت - زراعة. صناعة. تعليم. ثقافة أو غيرها من الأهداف الحيوية - يرتبط أو لعله ينبثق من قرار سياسى يسبقه.
- أن عملية صنع القرار هى التى تضبط إيقاع الحوار فى أى بلد سواء فى جدواه أو حتى فى مزاجه.
- أن عملية صنع القرار حين تتعرض لقضايا حالة وواقعة يمكنها - دون عمد أو قصد - أن تصادر المستقبل وتقيد حرية خياراته.
ولقد عرضت فى الأسبوع الماضى لنماذج من عملية صنع القرار السياسى فى مصر خرجت منها بنتيجة مؤداها أن هناك على وجه التحقيق أشياء تعترض مجرى القرار السياسى فى مصر وهذه الأشياء لها على وجه اليقين أسباب موضوعية. وإذا جاز لنا أن نقول والقول صدق بأن القرار السياسى المصرى الآن ليس سلسلة متصلة من الأخطاء - فإنه من الأمانة أن نقول فى نفس الوقت أن هناك نسبة ملحوظة من القرارات تستوجب المناقشة والمراجعة وإمعان النظر".
ثم كان لى سؤالى بعد ذلك:
- "ما الذى يعترض القرار السياسى فى مصر؟"
من مقتضيات العدل أن نوافق مسبقاً على أن جانباً كبيراً من الصعوبات التى تعترض صنع القرار السياسى المصرى اليوم، موروث من ليال سابقة!
فمصر الآن بغير "مشروع تاريخى" يحدد مجرى القرار ومساره على كل المستويات، وبالتالى فإن القرار المصرى مشتت فى مسالك ومسارب متشعبة تمتص جزءاً من قوة اندفاعه وبالتالى تحد من تأثيره.
والمشروع التاريخى لأى وطن من الأوطان هو رؤيته لهدفه الأكبر وإطاره، وتصوره لحياته وإمكانيات تطورها، وتحديد الوسائل والخطى اللازمة لتحقيق هذا كله وحماية أمنه."
بتعبير آخر فإن "المشروع التاريخى" لأى وطن هو "إستراتيجيته العليا" وقد يكون مناسباً أن نضرب بعض الأمثلة الحية:
- لنأخذ الولايات المتحدة الأمريكية: استراتيجيتها العليا تعبير دقيق عن تركيبها الجغرافى بعد أن نشأت الدولة فيها وتوسعت من شرق القارة إلى غربها وطنها أصبح قارة بأكملها من المحيط إلى المحيط وهى تعتبر نفسها فى مهجرها الجديد وريث الإمبراطوريات الغربية وحصن نظامها الرأسمالى الهائل وقاعدة قوتها وأمنها وهكذا فإن نطاق حركتها يمتد من الشاطئ الشرقى لها حتى يرتكز على أوروبا الغربية (مجتمع الأطلنطى) ويمتد فى ناحية أخرى من الشاطئ الغربى لها حتى يرتكز على اليابان وعلى الصين وعلى جزر الشاطئ الآسيوى كالفليبين أو إندونيسيا وحتى استراليا!
وفى قلب هذين القوسين فإن الشرق الأوسط له أهمية قصوى استراتيجية واقتصادية وإنسانية، ولهذا فإن الولايات المتحدة لابد أن تكون داخلة فيه، مسيطرة بالكامل إذا أمكن، أو مؤثرة إذا استحالت السيطرة.
هذه خطوط الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة - وعلى أساسها نستطيع أن نفهم حركة مجتمعها فى الداخل وتوجهات سياسته فى الخارج ومطالبه المحددة ابتداء من بناء الأحلاف العسكرية الكبرى التى تواجه بها خصمها فى هذه المرحلة التاريخية وهو الاتحاد السوفيتى وانتهاء بما تفعله السياسة الأمريكية فى منطقتنا من العالم تجاه العرب أو تجاه إسرائيل.
وهكذا أيضاً نستطيع أن نفهم تكتيك الولايات المتحدة... أى تحركات كل يوم.
فى مثال آخر نستطيع أن نأخذ الهند. فلأن الهند قارة قوميات وطوائف وأديان ولغات فإن الاستراتيجية العليا للهند هى استراتيجية توحيد وصهر عن طريق التنمية والعلم مع الاستعداد الدائم للدفاع ضد محاولات الانفصال والسلخ والتنبه بالتحديد للصين فى الشرق ولباكستان فى الغرب.
وفى هذا الإطار كله استراتيجية الهند، وعمل كل يوم فيها.
- وفى مثال ثالث نستطيع أن نلقى نظرة سريعة على إسرائيل فنرى أن استراتيجيتها العليا هى: الهجرة باستمرار. والتوسع باستمرار. والاعتماد على قوة كبرى فى الغرب. بريطانيا مرة. فرنسا مرة. والولايات المتحدة الأمريكية دائماً.
ونجىء إلى مصر.
كان لها "مشروعها التاريخى" منذ أدرك الوادى المحاصر برمال الصحراء أنه جزء من شىء أوسع، وأنه بالمصلحة والأمن يتصل بكيان أكبر منه. فهناك مع الأوسع والأكبر يجد الوادى المحاصر هويته ومصالحه وإمكانيات أمنه.
وبصرف النظر عن الجذور التاريخية وعبرة التاريخ الطويل ودروسه فإننا نستطيع القول بأن "المشروع التاريخى" الذى تحركت مصر فى إطاره تشكلت قسماته فى العصر الملكى، وظهرت ملامحه فكرية وثقافية صنعها شعراء وكتاب، وموسيقيون ومغنون، حتى جاءت السياسة والاقتصاد والدفاع بعد الحرب العالمية الثانية وتحولت القسمات والملامح إلى إطار سياسى هو جامعة الدول العربية.
ثم دخل "المشروع التاريخى" الذى تحركت فيه مصر مرحلة جديدة بعد يوليو 1952 هى مرحلة الثورة القومية.
ثم جاء البترول ليأخذ "المشروع التاريخى" كله إلى مرحلة أخرى هى مرحلة النفط.
ولعلنا نلح مرة أخرى هنا على أن "المشروع التاريخى" لأمة لا يقتصر فعله على المجال السياسى فقط وإنما هو يمد آثاره إلى كل المجالات الاجتماعية والعسكرية والعلاقات الدولية وحتى إلى أساليب العمل ذاتها ولغتها وفى حين كان "المشروع التاريخى" فى العصر الملكى يعبر عن نفسه بالعبارة والإشارة - فإن ذات المشروع فى العصر القومى الثورى كان يعبر عن نفسه بالعمل المباشر متوجهاً إلى الشارع وجماهيره، ثم إن ذات المشروع فى مرحلة النفط راح يعبر عن نفسه باتصالات القصور حيث مفاتيح الخزائن وحجابها!
ومهما يكن فإن حركة مصر فى "المشروع التاريخى" أخذت فى منتصف السبعينات منحنى آخر أدى بها خارج نظامه بالصلح المنفرد بينها وبين إسرائيل.
ويقول بعض الناس: "إننا اعتمدنا اختياراً آخر" - والقضية ليست بهذه البساطة لأن الاختيارات التاريخية أخطر من أن تكون نزهة كل يوم. وعلى فرض أنها كذلك فإن الأمر كان يقتضى استعدادات أو انقلابات أوسع وأعمق فى كل جوانب حياتنا وهو ما لم يحدث. وفى المحصلة فلا نحن بقينا على أسس الاختيار الأصلى ولا نحن وضعنا أسساً جديدة غيرها وهكذا فإن حركتنا تكاد أن تشبه ما يحدث لقطار سكة حديد يخرج عن قضبانه ويحاول أن يجرى على طريق من الأسفلت أو العكس.. سيارة على قضبان السكة الحديد!
وصنع القرار فى مثل هذه الأحوال معضلة أو هو مخاطرة
وعلى سبيل المثال فإن عدداً من القرارات صدرت فى مصر وفى النوايا المضمرة أثناء عملية صنعها أنها قد تفتح الباب لعودة مصر إلى الجامعة العربية وهذه العودة لا تحدث رغم صدق عزم كثيرين لأن المسألة عملياً لها جانب آخر. فالجامعة العربية يتركز نشاطها السياسى - بصرف النظر عن فاعليته - فى ثلاث بنود:
... الدفاع المشترك (ومصر لا تستطيع أن تشارك فى خطط الدفاع المشترك العربية فكلها موجهة إلى إسرائيل وعلى أى حال فهذا بند انفرط عقده بالنسبة للكل وليس بالنسبة لمصر وحدها فلم يعد أحد يعرف من مع من، ولا من ضد من فى العالم العربى بأسره).
.... ثم المقاطعة العربية لإسرائيل (وهذه لا تستطيع مصر أن تشارك فيها بمقتضى اتفاقياتها مع إسرائيل).
...ثم قرارات تدين عدوان إسرائيل (وبصرف النظر عن قيمة القرارات فمصر لا تستطيع أن تشارك فيها).
وهكذا فليس هناك أمام مصر ما تفعله فى الجامعة العربية على فرض أنها عادت إليها - ليس هناك إلا مقعد بلا دور وهو وضع لا يناسب مصر ولا يتفق مع حجمها ووزنها التاريخى.
وربما كان أفصح تعبير عن مأزق القرار المصرى فى محيطه القومى والإقليمى هو الموقف إزاء قرار الحكومة الأسبانية أخيراً بإقامة العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع إسرائيل وبعده قرار بعض الدول الأفريقية بأن تفعل نفس الشىء.
بدا من الصعب أن يكون هناك قرار مصرى. بل لقد بدا من الصعب أن يكون هناك موقف مصرى.. أو حتى صياغة معقولة لرأى مصرى فضلاً عن موقف! - لقد كان ردنا على الذين سألونا رأينا بتعليق يقول: "إن مصر لا تتدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى"!
وكان أولى بالدبلوماسية المصرية أن تجهد نفسها بعض الشىء لتجد رداً آخر أكثر معقولية. فهذا الرد التقليدى الذى سارعنا به لم يكن حتى محايداً بل تضمن - وبغير قصد بالطبع - مظنة لوم على بقية الدول العربية التى حاولت - على استحياء - لفت نظر أسبانيا وبعض الدول الأفريقية التى أعادت علاقاتها مع إسرائيل - إلى أنها تعتبر ما جرى تصرفاً غير ودى تجاهها.
كان القرار المصرى فى مأزق دون شك ولا أظنه ساعد نفسه كثيراً على الخروج من مأزقه باعتذاره عن التدخل فى شئون الآخرين! ومأزق القرار المصرى ظاهر أكثر فى علاقات مصر بمنظمة التحرير الفلسطينية...
تشعر المنظمة وبحق أن مصر التاريخية هى سندها الكبير لكن مصر السياسية عليها قيود..
وتشعر مصر بأن القضية الفلسطينية حيوية بالنسبة لأمنها التاريخى - لكن ارتباطاتها التعاقدية تقول بشىء آخر.
وهكذا يصبح القرار شبه مستحيل إلا إذا كان القرار إنشائياً أو كلمات لا تنطوى على قوة فعل.
وهذه فى معظمها أوضاع لا دخل لعملية صنع القرار الآن بها - أوضاع موروثة.
وربما كان لصالح عملية صنع القرار الآن، ولحسابها - أن صوت النداء التاريخى يصل إليها، ثم إن الأمر الواقع يقف أمامها، وهكذا يبدو وكأن القرار لا يبرح مكانه أو لعله يدور حول نفسه لأنه صراع بين النداء التاريخى الأصيل وبين أحكام الواقع الراهن.
أيام كان "المشروع التاريخى" "مشروع النظام العربى" حياً - كان القرار المصرى - بصرف النظر عن الخطأ والصواب - ممكناً لأن المعالم ظاهرة.
وأيام كان "المشروع التاريخى" باختياراته الاجتماعية فواراً - كان القرار المصرى - بصرف النظر عن الخطأ والصواب - ممكناً لأن الخطوط مرسومة.
وحتى أيام كان "المشروع التاريخى" ملفوفاً بعباءة البترول - كان القرار المصرى - بصرف النظر عن الخطأ والصواب - ممكناً لأن المراكز محدده.
وأما فى هذه الظروف فإن القرار المصرى (فى إطار النظام العربى) يمشى على أرض بغير معالم وبوسائل لم يتهيأ لها.. سيارة على خط سكه حديد، أو قطار على الأسفلت!
أمام القرار المصرى أيضاً متغيرات فى العالم العربى لا تقل فى تأثيراتها البعيدة خطورة.
ولابد أن نعترف أن مخطط السيطرة على العالم العربى نجح إلى حد ما فى مطلبه القديم بتقسيم العالم العربى إلى كيانات جغرافية سياسية مشغولة بنفسها.
كان مطلبه القديم تقسيم العالم العربى إلى مناطق: منطقة الهلال الخصيب تتنازع النفوذ فيها بغداد أو دمشق - ثم منطقة شبه الجزيرة العربية وشواطئها على الخليج ومركز النفوذ فيها الرياض - ثم منطقة شمال أفريقيا والنفوذ فيها يتأرجح بين الجزائر والرباط - وأخيراً منطقة وادى النيل تنشغل فيها مصر بالسودان والسودان بمصر.
وأكثر من ذلك فلقد كان المخطط ليس فقط أن تنشغل المناطق الجديدة بنفسها وإنما أيضاً أن تنشغل بصراعات جديدة داخل مناطقها أو على تخومها حتى لا تظهر قوة مؤثرة فى واحدة منها.
وهكذا وجد العراق نفسه مضطراً إلى خوض حرب على البوابة الشرقية للأمة العربية مع إيران - وشغلت سوريا بالشعارات الطائفية والمذهبية والعائلية فى لبنان - والسعودية مهمومة بألغاز اليمن الجنوبية - والمغرب فى صدام مع الجزائر بسبب الصحراء - والسودان يعيش محن وأجواء حرب أهلية.
ثم إن الأطراف فى غيبة نظام عربى - مشروع تاريخى تشارك فيه مصر - راحت تتصرف على هواها، وحين جاءتها المقادير بثروة ضخمة تولت تبديد هذه الثروة وتركتها تتسرب من أيديها كرمال الصحراء فى قبضة اليد دون أن تترك أثراً باقياً.
ولمدة عشر سنوات - على سبيل المثال - كان دخل الدول العربية من فوائض أموال نفطها بمعدل 250 بليون دولار كل سنة.
وهذه ثروة لم تتح من قبل فى فترة التأسيس لإمبراطوريات التاريخ الكبرى، فهى أكبر مما أتيح للأمويين حين أقاموا دولتهم العظمى، وأكبر مما أتيح للعباسيين، وأكبر مما أتيح لبريطانيا، وأكبر مما أتيح لأسبانيا فى عصرها الذهبى - ولقد جاء الذهب (الأسود) ومضى ولم يصنع العرب إمبراطورية كأسلافهم القدامى من الأمويين والعباسيين، ولا قوة صناعية كبرى وإمبراطورية أيضاً كما فعلت بريطانيا بالثروة المنهوبة من مستعمراتها، ولا بقيت لديها كنوز ذهب تجمدت وعاشت فى الكنائس والقصور كما فعلت أسبانيا بشحنات ذهبها المسلوبة من العالم الجديد - أمريكا اللاتينية بالذات!
أين ذهبت فوائض الذهب العربى الأسود؟ - لا أحد يعرف يقيناً وإن كانت هناك مجموعة من الأرقام لافتة للنظر بدلالاتها. ولقد قرأت هذه المجموعة من الأرقام أول مرة فى تقرير صادر عن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ثم وجدتها بعد ذلك بالحرف فى دراسة نشرها الأستاذ "ناداف صفران" صادرة عن جامعة "هارفارد".
تقول مجموعة الأرقام التى أشير إليها أن الميزانية السنوية للدفاع فى المملكة العربية السعودية تساوى فى حجمها ميزانيات الدفاع فى خمس دول فى الشرق الأوسط مجتمعة - وهذه الدول الخمس هى مصر وسوريا والأردن والعراق وإسرائيل!!
وفى حين أن الدول الخمس تملك بهذه الميزانيات مجتمعة ستين فرقة وعشرة آلاف دبابة وألفى طائرة حربية - فإن المملكة العربية السعودية بميزانية تساوى حجم ميزانيات الخمس، لا تملك إلا خمس فرق وخمسمائة دبابة ومائتى طائرة!
والنموذج نفسه متكرر فى سلطنة عمان والأرقام فى تقرير نشر فى لندن قبل أيام.
فميزانية الدفاع فى سلطنة عمان تصل إلى بليونين من الدولارات سنوياً وجيشها يضم 25 ألف جندى - وميزانية باكستان أقل من ميزانية عمان بمائتى مليون دولار وجيش باكستان يضم 647 ألف جندى!!
وهكذا فإن القرار المصرى يواجه عالماً عربياً يختلف عن ذلك الذى تركته مصر حينما قرر صناع القرار فيها أن يأخذوا منحنى على الطريق إلى خارج النظام العربى!
أمام القرار المصرى متغيرات فى مجال أوسع هو المجال الدولى وأهم ما فيه الولايات المتحدة الأمريكية التى ارتبطت مصر معها بعلاقة خاصة سبقت عملية صنع القرار فى مصر الآن.
وببساطة فإن الولايات المتحدة الأمريكية الآن تختلف تماماً عن تلك التى ارتبطت معها مصر بالعلاقة الخاصة.
من ناحية نجح رئيسها "رونالد ريجان" فى أن ينقلها تماماً من الأفكار المتحررة نسبياً من بقايا عصر "روزفلت" وحتى "كيندى" - واتجه بها وطاوعته إلى ناحية أقصى اليمين مع مسحة دينية شبه صليبية تؤمن بأن كلمتها هى القانون البابوى للعصر، وأن على الآخرين أن ينصاعوا له وإلا عرضوا أنفسهم للحرمان والطرد من الفردوس الأمريكى على الأرض!
من ناحية أخرى فإن "رونالد ريجان" تجاوز فى أوهام القوة العسكرية بما زاد من حجم الدين الأمريكى الداخلى والخارجى مما جعل الولايات المتحدة أكبر مدين فى العالم المعاصر وتقول أرقام مؤكدة إن الدين الأمريكى للعالم لم يسبق له مثيل أو نظير فى التاريخ وهو يتمثل بالدرجة الأولى فى سندات على الخزانة الأمريكية وفى البترودولارات وفى غيرها من أوعية الاقتراض المباشر أو غير المباشر والحجم فلكى يزيد عن خمسة آلاف بليون دولار، ثم إن فوائد الدين الأمريكى الداخلى سوف تصل ابتداء من سنة 1990 إلى مائة بليون دولار سنوياً، مضافاً إلى عجز فى ميزان المدفوعات حجمه هذا العام مائتاً بليون دولار وهكذا بدأت الولايات المتحدة تعد لتخفيض برامج مساعداتها الخارجية، وابتداء من هذا العام وبنص قانون أجازه الكونجرس تضغط كل المصروفات فوراً بما نسبته 4% - وإلى درجة أن إسرائيل اضطرت أن تعيد إلى الولايات المتحدة قرابة ستين مليون دولار هى نصيبها فى تخفيض المساعدات المقررة لها وكانت قد حصلت عليها مقدماً.
ولقد تغير النظام الاقتصادى الأمريكى كله وهو يتغير كل يوم.
بل وتغير النظام النقدى فى العام كله وهو على شفا هاوية.
وأتذكر أن "ميشيل جوبير" وزير الخارجية ووزير التجارة الفرنسية الأسبق قال لى مرة ونحن فى مكتبه:
- "إنهم (يقصد الولايات المتحدة) يدفعوننا جميعاً إلى خراب اقتصادى يظنون أنه سيصل إليهم بعد أن يأتى علينا جميعاً قبلهم ويطمئنهم ذلك - أليس هذا غريباً؟"!
وكان ذلك قبل أن يصدر الرئيس الأمريكى قراره بالمضى فى برنامج حرب النجوم... سوف يتكلف ثلاثة آلاف بليون دولار. وسوف يدفعه العالم كله رضى أو أبى، عن طريق شروط تجارة غير ملائمة وعن طريق سيطرة على النظام النقدى غير قابلة للتحدى بسهولة. فالكل يحتفظ باحتياطات أمواله فى وعاء النقد الأمريكى - الدولار - ابتداء من السعودية وحتى اليابان!
ولا أعرف حقيقة كيف يتصرف صناع القرار المصرى الذين يطاردهم صندوق النقد الدولى يطالبهم كل يوم بالتقشف والتوازن - بينما هو لا يستطيع أن يفتح فمه بكلمة يلفت فيه نظر أكبر مديونية وأكبر خلل فى الدنيا كله - حتى ترضى واشنطن أن تعود إلى دائرة المنطق الذى تلزم الآخرين به.
وهذه كلها تجعل عملية صنع القرار فى مصر عصبية المزاج فهى تتعامل مع قوة بغير ضوابط وأحياناً بغير مسئولية - والمأزق الحقيقى أن مصر لها علاقات خاصة اقتصادية مؤثرة مع الولايات المتحدة بالمعونات، ولها علاقات خاصة عسكرية مؤثرة مع الولايات المتحدة - على الأقل - بتوريدات السلاح. ثم إن هذه العلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة فضلاً عن تأثيراتها المباشرة تضع أثقالاً - ولا أقول قيوداً - على سياسة مصر الدولية وهى إضافة أخرى إلى هموم صناع القرار السياسى.
ثم نجىء إلى ما تواجهه عملية صنع القرار السياسى فى مصر إزاء إسرائيل.
سوف نلاحظ أن هناك ممارسات تعودنا عليها، وهى قائمة على تصورات فات أوانها ولا أظنها كانت صحيحة حتى فى أوانها.
استقر فى ذهننا أحياناً أن النزاع بيننا وبين إسرائيل نفسى فى جذوره وأنه إذا جاءت الطمأنينة زالت الشكوك ثم ذابت العقد.
ولقد أعطينا الطمأنينة كل سبب وسبب ولم يكن ذلك كافياً لحل قضية رقعة أرض صغيرة مثل "طابا" - وبرغم ذلك ما زالت إسرائيل تضغط باحتلال الأراضى لكى تفرض شروط العلاقات - وليست - "طابا" وحدها هى التى ما زالت محتلة وإنما معها أربع عشرة نقطة أخرى.
والمواقع المحتلة محدودة ولكن المعنى وراء استمرار احتلالها غير محدود فهو إعلان لكل من يعنيهم الأمر بأن إسرائيل لن تعود إلى خطوط ما قبل 1967 مهما كانت التنازلات أو غيرها من بوادر الطمأنينة.
والحق أن صناعة القرار المصرى فى موضوع "طابا" كانت سليمة فى مجملها حتى الآن وإن كان العتب عليها أنها تتسرع قبل أن ترى بعينيها فى بعض الأحيان، ومن ذلك ما حدث أخيراً حين سمعنا عن مقترحات "بيريز" لصفقة شاملة مع مصر وبادرنا إلى وصفها بأنها إيجابية ولم تكن شروط الصفقة قد وصلتنا ولكنها عندما وصلت وقرأناها واكتشفنا أنها لم تكن "صفقة" وإنما كانت "فاتورة" برسم الدفع!
واضطررنا إلى التراجع عن تقديرنا المتسرع، لكن المشكلة أن العالم كان قد قبل دعايات "بيريز" وصدق تعليقنا الفورى عليها وبدأ يظن أن إسرائيل كانت إيجابية ثم راودته الشكوك إزاء تراجعنا فظن بنا الظنون -وهو عكس الحقيقة!
وفيما يتعلق بإسرائيل أيضاً فقد استقر فى أذهاننا فى وقت من الأوقات أن هناك معتدلين فى إسرائيل وهناك متشددون ضمن المجموعة الحاكمة وأننا نستطيع استغلال تناقضات ما بينهم من علاقات.
فعلنا ذلك فى البداية أثناء محادثات الكيلو 101 وحرب أكتوبر لم تنته بعد، فقد ذهب الفريق - وقتها - "الجمسى" إلى اجتماعاته مع الجنرال "ياريف" مدير المخابرات العسكرية ومعه تعليمات سرية غير تعليماته الرسمية.
التعليمات السرية تقول له: إن هناك خلافاً بين "جولدا مائير" - رئيس الوزراء - و"موشى ديان" - وزير الدفاع - وأن "ياريف" هو رجل "ديان" وعليه أن يستغل هذا الخلاف ويعطى بعض التنازلات لـ"ياريف" يحملها إلى "ديان" من وراء "جولدا مائير"!!
حدث نفس الشىء حين أقنعنا أنفسنا بأن "بيريز" أفضل من "شامير" وأننا لابد أن نلحق بالفرصة قبل أن تضيع ويسلم "بيريز" رئاسة الوزراء فى إسرائيل إلى "شامير". فى نوفمبر القادم.
نفس الشىء تكرر فيما بعد مع "عزرا وايزمان" فقد استقر فى ذهننا أنه أعقل وأكثر اعتدالاً من "بيريز" ومن "شامير" وبالطبع من "شارون".
وهكذا أصبح "وايزمان" حمامة سلام-!!- بين القرار فى مصر والقرار فى إسرائيل.
وما زال "وايزمان" يقوم بدور الحمامة حتى الآن.
تأثير مفاهيم استقرت فى وقت سابق وما زالت لها آثار باقية معلقة فى وقت لاحق.
وأصل أخيراً إلى ما تواجه عملية صنع القرار فى مصر ولمصر وداخلها.
- الحقائق الاقتصادية مرة والنتائج المترتبة عليها متفاقمة والتعامل معها - حتى بأقصى درجات الكفاءة - صعب.
زيادة فى السكان لا سبيل إلى السيطرة عليها و60 فى المائة من هؤلاء تحت سن العشرين.
موارد كانت كافية بالكاد قبل زيادة عدد السكان واستطعنا فى مرحلة من المراحل أن نسد الفجوة المتسعة بموارد استثنائية - كتحويلات المصريين فى الخارج وتصدير البترول ودخل قناة السويس والسياحة - لكن كل هذه الموارد الاستثنائية تتناقص الآن.
ديون تراكمت فى فترة السبعينات وقفزت من 2 بليون دولار سنة 1971 إلى 24 بليون دولار سنة 1981 - وهى الآن تقترب من ثلاثين بليوناً.
ولو واصلت عد الحقائق لما انتهيت.
وصناع القرار على كل المستويات ينظرون إلى الصورة ويهولهم ما يرون ويقتربون أحياناً،وأحياناً يبتعدون كأنهم أمام لغم شديد الانفجار وهم بالفعل أمام لغم شديد الانفجار.
- الخريطة الاجتماعية فى مصر متغيرة، تغيرت بالانفتاح، وتغيرت بعصر البترول وفوائضه وتحويلات المصريين منه، وتغيرت بعوامل أخرى كثيرة.
لكن الخريطة الجديدة لم ترسم بعد ولا تحددت خطوطها الرئيسية.
والسؤال هو: كيف يمكن لعملية صنع القرار أن تمارس دورها فى مجتمع مختلف، وعمق اختلافاته مجهول وآثارها على التركيب الطبقى فيه، وعلاقات الطبقات غامضة، وإن كانت علامات التوتر قد عادت إلى الظهور فيها؟
لعلى أزعم أننا بقرب وضع خطير لأن المشاكل - وأولها التضخم المنعكس فى ارتفاع الأسعار المطرد - بدأت تصل إلى الطبقة المتوسطة فى مصر وتحاصرها وهذه الطبقة كانت ولا تزال هى العمود الفقرى للتركيب الطبقى فى مصر.
وإذن فنحن أمام أسئلة معلقة كثيرة فى صنع القرار الداخلى....
لمن القرار بالضبط؟ ولمصلحة من؟ وما هو حجمه فى التركيب الطبقى المصرى ووزنه؟
- ثم إن الخريطة السياسة فى مصر ليست معبرة عن كل قواها الاجتماعية، وإذا كنا فيما سبق قد لاحظنا أن العمل السياسى الحزبى لم يستطع أن يشد إليه أكثر من 4 فى المائة ممن لهم حق الانتخاب - إذن فأين الباقون ومن الذى يمثلهم على الساحة السياسية؟ وكيف تستطيع عملية صنع القرار السياسى أن تأخذ فى حسابها مساحة الفارق الهائل بين الخريطة الاجتماعية وبين الخريطة السياسية؟ وهل يكون التأثير الأكبر للأعلى صوتاً أو ما هى بالضبط قواعد اللعبة السياسية عند حسابات القرار؟!
ثم إن اختلال الخرائط بين ما هو متغير وما هو غير محدد وما هو مجهول وما هو مائع قد سمح بظهور جماعات للضغط المنظم لم تعرفها مصر من قبل.
جماعات تملك من التأثير ما هو أكبر مما تمثله وأكبر بكثير.
هناك الآن مثلاً جماعة ضغط تمثل ما يسمى برجال الأعمال، لهم تأثير واضح ولكن دورهم الفعلى فى حركة المجتمع المصرى أقل وضوحاً.
وبالنسبة لجماعة رجال الأعمال مثلاً فقد ترينا الأرقام ما تخفيه الضغوط.
تقول الأرقام أن حجم ودائع قطاع الأعمال فى البنوك حوالى سبعمائة مليون جنيه - وأن قروضهم من هذه البنوك عشرة ملايين جنيه.
وتقول الأرقام أيضاً أن حجم ودائع القطاع العائلى - أى مدخرات غير المشتغلين بالأعمال - حوالى ستة عشر بليون جنيه وأن قروضهم من البنوك ستمائة مليون جنيه.
أى أن قطاع الأعمال يمارس دوره فى الحقيقة اعتماداً على مدخرات القطاع العائلى، ومدخرات القطاع العائلى تتآكل بالتضخم ورجال الأعمال هم الذين يحصلون على فوائد استغلالها الحقيقى.
وعلى ذلك فالقوة الضاغطة هى "رجال الأعمال" والمضغوط عليه هم "المدخرون - الطبقة المتوسطة فى الواقع. هى المضغوط عليه ومعها القرار!
إلى جانب ذلك فهناك ظاهرة جديدة تستوجب القلق وهى ظاهرة العلاقة المتزايدة بين بعض عناصر الحكم وبعض جماعات رجال الأعمال، فقد بدت هناك على الناحيتين حركة ذهاب وإياب... ناس من مجال الأعمال إلى السلطة مباشرة وناس من السلطة مباشرة إلى مجال الأعمال! - ولا أريد أن أسمى أحد لأن مقصد الكلام هو الظاهر وليس مقصده الإشارة بإصبع إلى أحد بالذات!
وإلى جانب جماعة الضغط الممثلة فى رجال الأعمال فهناك مجموعات أخرى للضغط.
هناك جماعة ضغط لعلاقات أوثق مع الولايات المتحدة - مصالح.
أغرب من ذلك فهناك جماعة ضغط لعلاقات أوثق مع إسرائيل - لا أظنها علاقات مصالح. ولعله سوء الفهم أو هو سوء التقدير!
وتشعر عملية صنع القرار السياسى بالضغوط وتقاوم أحياناً - لكن الأصوات عالية ورنانة!
- وأتوقف عند مشكلة أخرى تواجه عملية صنع القرار السياسى وهى الرجال. فعملية صنع القرار فى النهاية تحتاج إلى رجال فى المواقع والجزء الأكبر من الرجال مستهلك.
- بعضهم استهلكته الهجرة أو العمل خارج بلاده إزاء عديد من الظروف.
- بعضهم استهلكه الانفتاح فخرج من مجالات العمل الحقيقى إلى مجالات أسهل وأسرع فى الوصول إلى الثراء.
- بعضهم استهلكه الإهمال ترك فى مكانه ومضت الحوادث لم تترك له غير ذكريات فى داخله وعلى السطح تراب وصدأ، وهو تبديد فى ثروة إنسانية وفى تجارب غنية لكنه حدث.
- بعضهم استهلكه الفساد فالغواية شائقة والفضيلة مملة فى عصور تتبدد فيها القيم بسرعة تقلبات البورصة وأسواق المال.
- بعضهم أخيراً استهلكته كثرة الاستعمال!
بعض المحافل تشبه بالفعل صالات عرض سيارات مستعملة لا أحد يعرف ماذا فعلت فى زمانها ولا ما فعله بها ذلك الزمان وعلى أى الطرق وفى أى الاتجاهات؟ ثم ما الذى تقول به عدادات حسابات المسافات التى قطعتها وهل الأرقام المقروءة فيها سليمة أم أن الأيدى عبثت بها لتظهر شيئاً آخر؟
وهكذا تجد عملية صنع القرار أنها فى حاجة إلى رجال فى المواقع.
والمعروفون منهم معظمهم مستهلك. والرجال الجدد معظمهم غير معروفين والرهان عليهم لعبة حظ لكنها ضرورية على وجه التأكيد لأن طبائع الأمور تقتضى رجالاً جدداً من جيل لا بد له - بالحق والضرورة - أن يتحمل مسئوليات عصره.
- قد نضيف أيضاً أن الجهاز الموكل بتنفيذ القرار وهو جهاز الدولة مستهلك شأنه شأن الرجال وربما أكثر.
أنهكه مر العصور، والتجارب، والقوانين واختلاف ما بينها، ثم تعود على أنه لا ينفذ سياسات وإنما ينصاع لسلطات ولممثلى هذه السلطات.
ثم سعت إلى دهاليزه عوامل الإفساد بما فيها استحالة التوفيق بين تكاليف الحياة وهى متورمة وبين جداول المرتبات وهى مخنوقة، هذا بينما الأجواء حافلة بمغريات وغوايات تخطف البصر وتثنى بعده بخطف العقل ثم يلحقها الضمير.
- بقيت فى مجال هذه القائمة نقطة تستحق الانتباه وهى أن الكل يعمل بغير أرشيف أو بمعنى أدق بغير ذاكرة.
لقد أسقطنا كل تجاربنا السابقة وتخلصنا منها. تاريخنا القريب ثلاث حقب: حقبة أهملناها، وحقبة هاجمناها، وحقبة نريد أن ننساها...
وهكذا فإن عملية صنع القرار فى مصر الآن تبدو وكأنها تمارس مسئوليتها فى إطار رد الفعل وحده لأن أصول القضايا غائبة.
وقد يكون فى التجارب القديمة - وفيها بالتأكيد - ما يصح إهماله وما يصح نقده وما يستحق النسيان، لكن هذه التجارب فيها ما هو أكبر من ذلك. فيها أصول هذه القضايا ونمو وتشعب هذه الأصول إلى فروع.
والغريب أن مصر وهى بلد التاريخ تنسى تاريخها بينما يلجأ الآخرون إلى استعارة التاريخ.
وعلى سبيل المثال فإن وثيقة إنشاء علاقات دبلوماسية بين أسبانيا وإسرائيل أشارت إلى أن "هذه العلاقات تعود بين الشعبين بعد قطيعة خمسمائة سنة! "وكان القصد بالطبع هو خروج اليهود من أسبانيا أيام محاكم التفتيش - أى أن "دولة" إسرائيل استعارت تاريخاً لم يكن لها، وبالغت فى "تأصيل" المسائل إلى حد اختراعها"!
وعلى سبيل المثال أيضاً فإن أرشيف روسيا القيصرية ظل - وحتى الآن - ذاكرة الاتحاد السوفيتى بالنسبة لقضايا وعلاقات ما قبل الثورة - مع أن التغيير بالثورة كان جذرياً قاطعاً بين العهدين.
ولكل دول العالم ذاكرة تربط الحاضر بجذوره وتعطى المستقبل وعياً بالبعد التاريخى لخطاه.
وفى غيبة البعد التاريخى فإن عملية صنع القرار السياسى فى مصر تبدو فى بعض الأحيان سباحة على شاطئ صخرى فى يوم ريح عاصف!
(وقد نضيف إلى نقطة الذاكرة نقطة المعلومات وتدفقها وتداولها على كل مستويات صنع القرار، وهذه النقطة موضوع يستحق أن يعالج وحده على أية حال).
والآن- ما الذى يستطيع صناع القرار أن يفعلوه إزاء هذا كله وكيف يكون تصرفهم؟
وقد نجازف ونجيب أولاً بالنفى - أى بما ينبغى تجنبه الآن.
الآن مثلاً - لا يحق لصناع القرار أن يرضوا باليأس وأن يستعيدوا المقولة القديمة بأنه "لا فائدة!" - أو يستذكر أحد منهم صيحة "شكسبير" فى ملحمته العظيمة عن "يوليوس قيصر" - وبلسان "مارك أنتونى" حين قال:
- "يا شعب روما إذا كانت لدى أى منكم بقية دموع فليذرفها الآن"!
ما زال الوقت مبكراً لمثل هذه المقولات!
والآن - مثلاً - لا يجمل بصناع القرار إعادة الحال على نفس المنوال والرضا بإجابات قديمة على أسئلة جديدة على النحو الذى تذكرنا به قصة "ونستون تشرشل" الذى تولى الوزارة فى بريطانيا سنة 1940 فى أحرج فترات الحرب العالمية الماضية وحين كانت فرنسا - الحليف القوى لبريطانيا - على وشك الاستسلام. جلس "تشرشل" مع رؤساء أركان حرب الإمبراطورية حين أصبح رئيساً للوزراء وراح يستمع منهم إلى خططهم لإدارة الحرب وسمع وسمع أكثر ثم استغرقه صمت عميق وأنظار الكل معلقة به وهو شارد عنهم فيما بدا لهم. وحين عاد إليهم بانتباهه فقد كان أول ما قال لهم:
- "أيها السادة أنتم تستعدون وتخططون للحرب الماضية!".
فإذا تركنا أسلوب النفى إلى أسلوب الإيجاب لوجدنا أنه قد يكون مناسباً لصناع القرار السياسى فى مصر الآن - وفى الظروف الراهنة - وما دمنا فى معرض الاستشهادات بمأثورات القول - أن يتذكروا مقولة "ماكيافيللى" أستاذ علم السياسة الحديثة وهو يقول فى كتابه عن "فن الحرب":
"التنظيم الدقيق يجعل الرجال أكثر جسارة فى حين أن الفوضى تصيب بالخوف أشجع القلوب".
قلائل هم الشجعان بالطبيعة لكن التنظيم الدقيق ودرس التجربة معه يعطيان لعامة الناس فرصة حقيقية للنصر - مؤكدة أكثر من الشجاعة!"
وقلت فى مطلع هذا الحديث إن مصر بخير حتى الآن، وما زلت أقول ذلك عند نهايته - لكن الهاجس الذى يفرض نفسه على السطر الأخير هو:
"ولكن إلى متى؟!"




Comments