صنع القرار السياسي في مصر
- محمد حسنين هيكل

- Feb 15, 1986
- 15 min read
Updated: Sep 5, 2022
"تكتب أو لا تكتب؟!" - سؤال كان مطروحاً على طوال الأسابيع الأخيرة. يليه مباشرة سؤال ثان: "وإذا كتبت فمن أين تبدأ؟!" ولم أكن متأكداً من الجواب على السؤال الأول - ولم يكن لدى شك فى الجواب على السؤال الثانى، فقد كان اختيارى للموضوع الذى قدرت أن أبدأ به واضحاً فى تفكيرى وشبه محدد: "عملية صنع القرار السياسى فى مصر"! كان الموضوع يشغلنى من زمن، وبدا لى فى عدد من الظروف التى مررنا بها أن مناقشته باتت ضرورة قصوى وأولوية تسبق غيرها، وفوق ذلك فقد خطر لى أن مصادفات التوقيت ذاتها تزكى طرحه للمناقشة فى هذه الفرصة، ذلك لأن تجربة "تكتب أو لا تكتب؟" بدأت فصولها على الجسر الموصل بين سنة 1985 إلى سنة 1986. وعلى جسور الزمان عادة فإن الناس يقفون ويتذكرون ويتأملون ويدرسون، فإذا استطاعوا أن ينفذوا من مجرد استعراض التجارب إلى استخلاص حقائقها، وإذا استطاعوا أكثر أن يستخلصوا من دلالات الحقائق قوانين حركتها - إذن فإن وقفتهم على الجسر تكون أعمق من لحظة أسى أو لحظة حنين. لكن مصادفة التوقيت فى تناول الموضوع أفلتت، فقد طال التردد "تكتب أو لا تكتب؟" لستة أسابيع - من أوائل يناير 1986 إلى منتصف فبراير الآن - وساورنى شك يميل إلى ترك الموضوع لتوقيت آخر مناسب؟- وبالفعل فكرت فى غيره. وطوفت بآفاق كثيرة. ثم وجدتنى عائداً إليه. ولقد تبينت أن الموضوع الذى كانت تزكيه مصادفة التوقيت - تؤكد تزكيته تطورات الحوادث، وأهمها وأبرزها هذا الذى نراه ونحسه الآن من ظواهر أو بوادر احتكاك بين مختلف القوى السياسية فى مصر. وهو احتكاك قد يتحول، بتدافع المواقف وتداعيها، إلى صدام أعرف بالقلب وبالعقل معاً أنه لا داعى له، ولا شىء يقتضيه، ولا مصلحة فيه لأحد. وفوق ذلك فإن ظروف الواقع المصرى لا تحتمل فتيل نار بقرب الحطب، ثم إن أوضاع المنطقة كلها تكاد تتهاوى تحت ثقل الضغوط وآخر شىء تحتاجه الآن - صدام فى مصر يضاف إلى أثقالها، وأخيراً فإن العالم الخارجى فى شغل عنا وليس لديه الوقت يهتم أو يستفسر عن أحوالنا ليطمئن!! وربما كانت هذه مجرد إيماءات وإشارات إلى واقع الحال - لكنى أظن أن فيها الكفاية مؤقتاً، وقد نعود إليها تفصيلاً فيما بعد! هكذا استقر رأيى على البدء بموضوع "صنع القرار السياسى فى مصر" - وإذا كانت مصادفة التوقيت قد فاتتنى فيه فإن محاذير صدام محتمل بين مختلف القوى السياسية فى مصر - تعود فتطرحه كمقصود فى ذاته بصرف النظر عن المصادفات! وهنا قد يكون مفيداً أن نحدد بعض الخطوط لكى يكون إطار المناقشة واضحاً: أولاً - قد نرى معقولاً أن نتفق منذ البداية على أن كل قرار سياسة، وكل سياسة قرار. من ناحية فإن القرار فى شئون الأمن القومى سياسة، وفى شئون الاقتصاد سياسة، وفى شئون الخدمات سياسة، وفى شئون الثقافة سياسة. وحتى إذا خطر لأحد بمظان المثالية المجردة أن السياسة يجب أن تبتعد عن بعض هذه الشئون، كالثقافة مثلاً، فربما كان مناسباً أن نتذكر أن مثل هذه المظان مستحيلات وأول استحالتها فى الثقافة، ومهما يكن فإن عدم التدخل فى حد ذاته، على فرض إمكانه، يصبح سياسة، قراراً بعدم التدخل. ومن الناحية الأخرى - ناحية أن كل سياسة قرار - فالأمر بيّن، فالسياسة ليست محاورات إلى الأبد وإنما هى عند مرحلة من المراحل قرار يصنعه مستوى من السلطة مختص به. وربما أضفنا أن الطبيعة السياسية لكل قرار لا تنصب على مضمونه أو على هدفه؛ وإنما تتعدى ذلك إلى أسلوبه بما فى ذلك صياغته وإصداره وعرضه على الناس. وإذا كان مضمون القرار هو الذى يؤثر على تصرفاتهم وأعمالهم - فإن أسلوب القرار هو الذى يؤثر على مشاعرهم وضمائرهم. القرار ينقل للناس رأى ورؤية صانعه فى القضايا والمشاكل التى يتصدى لها. وأسلوب القرار ينقل لهم رأى ورؤية صانعه فيهم هم ومنطق تعامله معهم كناس وبشر. ثانياً: من الإنصاف أن نعترف بأن عملية "صنع القرار السياسى فى مصر" صعبة معقدة خصوصاً فى مثل الظروف التى نمر بها؛ فعلى مختلف مستويات صنع القرار السياسى، وهى متعددة، يجد صانع القرار نفسه أمام مواريث ومستجدات وأحوال وملابسات معظمها بعيد عن مطال إرادته أو قدرته. وأعلم علم اليقين أن بعض صناع القرار يجدون أنفسهم فى بعض اللحظات أمام طرق مسدودة يبحثون فيها عن مخرج ولا يجدون. وفى بعض الأحيان يصيبهم الإحباط أو شىء قريب منه يدفعهم إلى الضيق بكل الناس وحتى بأنفسهم. أقول ذلك من باب العدل والإنصاف والتقدير لمحنة صناع القرار السياسى فى مصر، لكننى من باب الحق أضيف بعده أن من يتصدون للمسئولية لا سبيل أمامهم غير أن يتحملوا أمانتها، وليس هناك من سبيل آخر! وعلى أى حال فإن أصحاب المسئولية مازالوا يتصدون لها، لم يتملكهم اليأس بعد، ولم ينفد صبرهم - وهذا شىء طيب. ثالثاً: تجىء بعد ذلك قضية أخرى حيوية وحساسة، وهى أن طبائع مراحل التطور فى مصر - كما هو الحال فى غيرها من بلاد العالم الثالث - لم تسمح بعد باكتمال النمو الطبقى والاجتماعى على نحو يمهد لظهور مؤسسات سياسية ودستورية قادرة على إقامة ديمقراطية حقيقية يمكن فى حماها أن تجرى عملية صنع القرار السياسى بنفس الحصانات والضمانات التى تجرى بها هذه العملية فى بلاد العالم المتقدم التى اكتمل نموها الطبقى والاجتماعى وترسخ فيها بالتالى دور المؤسسات وحكمها. وقصارى ما تسمح به الأحوال فى هذه المرحلة من التطور لمعظم بلدان العالم الثالث أن تظهر فيها جماعات سياسية تقود العمل الوطنى على نحو أو آخر لتحقق نوعاً من الاستقلال، وبعضاً من أشكال الدولة، وشيئاً من ملامح التنمية، وصوراً من مظاهر الديمقراطية. وهذا أيضاً شىء طيب - فكلها خطى على الطريق تتعثر أحياناً، أحياناً أخرى تتقدم! رابعاً: إن فريقاً من هذه الجماعات السياسية يتولى السلطة عادة عن طريق جاذبية وتأثير دعوة إلى الاستقلال أو دعوة إلى العدل الاجتماعى أو دعوة إلى الديمقراطية - بينما يقع على فريق آخر من هذه الجماعات عبء التعبير عن اجتهادات مختلفة فى نفس القضايا أو على تخومها.
وعلى وجه التأكيد فإن هذه الجماعات السياسية على الناحيتين تمثل مصالح معينة ولكن من الصعب على أحد أن يقطع بيقين ويتحدث عن أغلبية تتولى السلطة وعن أقلية معارضة؛ فالأرضية ذاتها غير محددة والمعالم عليها ليست متجسدة.
وعلى سبيل المثال - وفى حالة مصر - فلا أظن أن أحداً يستطيع أن يقطع بيقين فى حجم ما يمثله الحزب الوطنى الحاكم، ولا من هم أعضاؤه وأنصاره اجتماعياً، ونفس الشىء مع حزب الوفد الجديد وحزب العمل وحزب التجمع وحزب الأحرار وغيرها من التنظيمات الظاهرة.
من هم بالضبط؟ ما هو حجمهم؟ ومن يمثلون؟، وما هى رؤاهم الأبعد والأوسع؟"
لا أظن أن الجواب لدى أحد - وبيقين.
والقدر المتيقن منه - كما يقول أساتذة القانون - هم أنهم على الناحيتين: جماعات سياسية فى السلطة وجماعات سياسة خارجها، وهم يمثلون بلا شك قطاعات من المصالح الوطنية ويعبرون عنها، لكنهم لا يمثلون كل هذه المصالح ولا يعبرون عن كل الوطن، وأغلب الظن أنهم جميعاً وعلى الناحيتين لا يمثلون أغلبية صحيحة أو مؤكدة آلت إليهم قيادته لأنهم عبروا بدقة عن آمالها وأثبتوا حسن استعدادهم لتحقيقها!
"و يلفت النظر بالإحصائيات أن عدد المقيدين رسمياً - على الورق! - بالانتماء إلى كل الأحزاب فى الساحة المصرية لا يزيد عن مليون شخص، بينما تقول الإحصائيات أن عدد المصريين فى سن الانتخاب يزيد عن 21 مليون شخص - أى أن المهتمين بالعمل المباشر فى مصر لا يزيدون كثيراً عن 4 % من بين المؤهلين للاهتمام".
هكذا أجازف وأقول إن الأغلبية الساحقة فى مصر صامتة وإن لم تكن ثابتة فى موقعها مثل النجم القطبى فى الشمال! أى أنها تتحرك بمغنطيس حسها ومشاعرها بين الناحيتين؛ وبالتالى فإن العمل السياسى الراهن حركة ثلاثية الأطراف، جماعات فى السلطة وجماعات خارجها وبين الاثنتين أخذ ورد. ثم إن كلا الجماعتين أقلية نشطة تتحرك على مرأى ومسمع من الأغلبية الفعلية الصامتة. وفى بعض الأحيان تصاب الأغلبية بالملل مما ترى وتسمع فتنصرف عنه بالاستغراق فى همومها اليومية، لكنها حين تهتم وتتابع تتحرك - حساً وشعوراً - بالتعاطف مع هذه الجماعات أو تلك وفق مواقف كل منهما فى قضايا محددة وبالذات، وهكذا نلمس ظاهرة ما يمكن أن نسميه بـ"الرأى العام"، وهو بحر واسع تتحرك أمواجه فى هذا الاتجاه أو ذلك ويهيج سطحه أحياناً ويعلو موجه لكن أعماقه مجهولة وشطآنه لم تستكشف بعد والأعماق والشطآن معاً ليست لها حتى الآن خريطة معتمدة!
وذلك - فى ظنى - هو التوصيف المعقول للحركة السياسية فى مصر الراهنة.
جماعات أقلية تتصدر العمل السياسى داخل السلطة أو خارجها، وأغلبية صامتة ولكنها متحركة تتابع أحياناً ما يدور أمامها وتتعاطف أحياناً مع جماعات السلطة، وتتعاطف أحياناً مع جماعات المعارضة. وقيمة هذه الجماعات أو تلك ترتبط بمقدار ما تستطيع أن تسحب الأغلبية الصامتة إلى جانبها أو تتركها تنجذب إلى الناحية الأخرى.
ثم إن قيمة هذه الجماعات ترتبط أيضاً بمقدار ما تثيره واحدة منها أو الأخرى من رياح على سطح البحر الواسع الذى يبدو لأول وهلة هادئاً ساكناً.
أكثر من ذلك لا يبدو لى فى هذه المرحلة.
وهو أيضاً شىء طيب فهو يعكس قدراً من التعدد والتنوع، وتوجهاً للأغلبية بالخطاب ومحاولة التأثير والإقناع.
خامساً: من نتيجة ذلك - فيما يمس موضوعنا اليوم - أن الأدوار بين الناحيتين تتوزع بشكل طبيعى:
طرف فى يده موقف الفعل بصرف النظر عن كفاءته وفاعليته، وطرف فى يده موقف رد الفعل بصرف النظر أيضاً عن كفاءته وفاعليته.
بمعنى أن جماعات السلطة هى التى تصنع القرار السياسى، وأن جماعات المعارضة هى التى تناقشه أو تعارضه أو حتى تستغل فجواته وأخطاءه لكى تشد الأغلبية الصامتة إلى ناحيتها أقرب.
فمن قبيل تحميل الأشياء فوق ما تحتمل مطالبة المعارضة - وبمجمل ما تحدثنا عنه حتى الآن - أن تقدم بدائل للقرار، والأسباب عديدة؛ فمجمل الأوضاع كما هى من عمل جماعات السلطة التى تملك صنع القرار وهى التى يجب أن تتحمل منطقياً بمسئوليات إدارته.
ثم إن طبيعة السلطة - وفى العالم الثالث كله - تجعل الحقائق التى يمكن أن يتم على أساسها صنع قرار فى يد السلطة وحدها، وليس أمام غيرها إلا التخمين بالظن أو التقاط أجزاء من الحقيقة طائرة فى الهواء.
هكذا نجد أنفسنا أمام أشياء طيبة، والطيبة كما يقول بعض فقهاء التشريع "صفة لازمة وليست كافية"، أى أننا أمام أوضاع ليست مثالية وليست كاملة لكنها ليست بالغة السوء وليست مستحيلة، وفى كل الأحوال فهى بالتأكيد أحسن نوعاً ما من كثير نراه حولنا قريباً أو بعيداً خصوصاً فى العالم الثالث الذى ننتمى إليه بحكم مراحل التطور؛ فلقد قطعنا أشواطاً لا يستهان بها ودخلنا تجارب غنية وإن كان بعضها مزعجاً، ثم وصلنا بعد فترة من الدوار العنيف إلى مفترق طرق متشابكة فيها كما تقول الأساطير سكك السلامة وسكك للندامة!
من هنا خشيتى من بوادر أو ظواهر احتكاك أو صدام بين القوى السياسية المختلفة فى مصر.
قلت فى بداية هذا الحديث إننى أراه شيئاً لا لزوم له ولا شىء فى مصر الآن يقتضيه ثم إنه ليس فى مصلحة أحد. وقلت أيضاً - فى بداية هذا الحديث - إن ظروف البلد لا تحتمله ولا أوضاع المنطقة ولا أحوال العالم، وإذا سمحنا له أن يقع فمعنى ذلك أننا نغامر بالمقادير، فإذا مصر وهى فى الصف المتقدم من دول العالم الثالث تتراجع إلى صف المؤخرة من نوع ما نرى فى بعض بلدان أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية! ومن هنا أيضاً تلك الأولوية التى أعطيتها لمناقشة موضوع "صنع القرار السياسى فى مصر" سواء جاءت الأولوية بتزكية من مصادفات التوقيت أو جاءت بإلحاح ظواهر معبأة بالمحاذير!
أكاد أقول إن مظاهر التوتر فيما نراه حولنا الآن نوع من سوء الفهم بين الجماعات السياسية المختلفة وربما نوع من خلط الأوراق والأدوار - وكله متصل بعملية صنع القرار السياسى وآثارها وتداعيات هذه الآثار وتراكماتها.
وربما أضفت أن الحساسية إزاء عملية صنع القرار السياسى فى هذه الأيام زائدة؛ فهناك شعور بأن الظرف أشبه ما يكون بفترة انتقال بين مشروع تاريخى تحمس له كثيرون لكنه لم ينجح، ومشروع تاريخى آخر لم تتحدد قسماته بعد!
كان المشروع التاريخى الذى تحمست له أغلبية ظاهرة دون شك فى الحقبة الماضية هو ذلك النداء بتحقيق السلام والرخاء فى أعقاب حرب أكتوبر، كان ذلك مشروعاً تاريخياً بدا ممكناً أمام أغلبية من الناس فى حين رأته أقلية منهم ضرباً من الأوهام، ثم أخذت التجربة مداها فإذا هى رحلة من منطقة الحلم إلى منطقة الكابوس، وتبين أن غياب الحرب ليس هو السلام، كما أن الانفلات ليس هو الانفتاح!
والأمم الحية لا تعيش بغير مواعيد مع التاريخ.
ينجح لها مشروع تاريخى فتعززه، ويضيع منها مشروع تاريخى فتصوغ بديلاً عنه.
لكن فترة الانتقال من ضياع مشروع إلى صياغة بديل تظل من أصعب الفترات.
وفى هذه الفترة فإن عملية صنع القرار السياسى تصبح مشياً على سلك مشدود فوق وديان تجوس فيها وحوش جائعة! ومن هنا فإن الحرص شديد باستمرار - لدى كل الأطراف - على ألا يكون من شأن أى قرار أن يؤثر بطريقة لا رجوع فيها على تشكيل وتركيب وصياغة المشروع - الحلم - الجديد.
ومن هنا كذلك فإن عملية صنع القرار السياسى تطرح نفسها على البحث بإلحاح سواء كان الإلحاح بمصادفات التوقيت أو بالقصد المقصود. وليس لأحد أن يتحرّج فى المناقشة، كما أنه ليس لأحد أن يسمح فيها بسوء فهم أو خلط فى الأوراق أو الأدوار يؤدى إلى احتكاك أو صدام، خصوصاً إذا كان هدف البحث هو إزالة اللبس وإعادة الترتيب والمراجعة ولم يكن الهدف هو الإحراج أو التشهير، وكلاهما - فيما أتمنى - ليسا مطلب أحد أو مبتغاه.
وقد يكون الوقت مناسباً عند هذا الموضع لاستعراض وتأمل نماذج من عملية صنع القرار السياسى سنة 1985 - والقصد بأمانة وتجرد، لا يتعدى التعبير عن إحساس أظنه يراود كثيرين غيرى، بأن عملية صنع القرار السياسى فى مصر تحتاج إلى إعادة نظر، لا أريد أن أقول أكثر ولا أستطيع أن أقول أقل!
ونقلب بسرعة واختصار بعض النماذج:
- فى مطلع شهر يناير فى تلك السنة - 1985 - صدر ما سمى وقتها بالقرارات الاقتصادية، وكان صدورها بعد سلسلة من اجتماعات طالت لأسابيع وشهور أعلنت بعدها القرارات وقام بإعلانها وزير الاقتصاد المسئول - الدكتور مصطفى السعيد - فى ذلك الوقت، وقيل فى التمهيد لها بواسطة كل أجهزة الإعلام الرسمية للدولة بأنها كفيلة بحل مشاكل الإنتاج والتمويل والتجارة وسعر الدولار أيضاً.
ولم تمض ساعات حتى بدأ التعديل فى هذه القرارات، وذلك شىء معقول، فكل خطة يمكن أن تظهر لها ثغرات بعد تنفيذها ومن الضرورى سد هذه الثغرات.
لم تمض أيام - بعد الساعات - حتى بدأ التلميح ثم التصريح، ليس فقط بأن القرارات كانت خاطئة من أساسها، وأنها سببت كارثة للاقتصاد الوطنى، بل أكثر من ذلك فإن الوزير المسئول لم ينفذ ما اتفق عليه مع رئيس الوزراء ومع مجلس الوزراء كله وإنما نفذ سياسة خاصة ارتآها وحده ووضع الباقين جميعاً فى مأزق أمر واقع فرضه عليهم فرضاً!
ولم يعرف أحد كيف حدث ذلك؟ ولا كيف كان يمكن أن يحدث؟ ولا كيف ظل الوزير فى موقعه يمارس تنفيذ سياسته لمدة ثلاثة شهور كاملة خلافاً مع السياسة المتفق عليها وخراباً للاقتصاد المصرى؟!
وفى شهر يناير - 1985 - عقد الأردن اتفاقاً مع منظمة التحرير الفلسطينية يجرى بمقتضاه اشتراك الأردن والمنظمة فريقاً واحداً فى أى مسعى لحل القضية الفلسطينية.
وطلعت السياسة الخارجية المصرية باقتراح مفاوضات مسبقة بين الولايات المتحدة ومنظمة التحرير.
ثم تبين أن الاقتراح المصرى كان مفاجأة لحكومة الأردن ولقيادة منظمة التحرير وأيضاً لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية.
وأحدث الاقتراح المصرى ربكة أضيفت إلى موقف عويص من أصله، ودخلت المسألة فى طريق دائرى بلا نهاية.. فعلى المنظمة أن تقترح أسماء من الفلسطينيين ترضى بهم واشنطن، ولأن واشنطن لا تقبل التعامل مع المنظمة فإن المنظمة تقدم قوائم مرشحيها للتفاوض إلى حكومة الأردن، وحكومة الأردن تنقل القوائم إلى واشنطن التى تحذف منها بعضها ثم تبعث بها إلى إسرائيل التى تتولى حذف بقية الأسماء ثم تعود الدائرة فتبدأ من جديد بقوائم جديدة.
يصاحب هذا كله ويرافقه ضغط على منظمة التحرير كى تقبل قرار مجلس الأمن رقم 242 وهو لا يخصها ولا يخص شعبها، وربما جاز لى هنا أن أذكر بوقائع مناقشة دارت بين وزير الخارجية الأمريكية السابق "سيروس فانس" وبين وزير خارجية إسرائيل الأسبق "إيجال ألون"، والوقائع كما رواها "سيروس فانس" تتلخص فى أنه قال لوزير الخارجية الإسرائيلية "إن المعلومات لدى واشنطن وبعض الحكومات العربية المعتدلة تفيد بأن منظمة التحرير على وشك أن تقبل القرار رقم 242، ورد "إيجال ألون" بأنه يعتقد بعدم صحة هذه المعلومات وبأن اعتراف المنظمة بالقرار مستحيل، وبدا الاستغراب على وجه وزير الخارجية الأمريكية وصدر منه التساؤل، وكان رد "إيجال ألون" بعبارة تلخص كل شىء قال: "لو اعترفت منظمة التحرير بهذا القرار فلن تعد منظمة للتحرير"!
وحتى شهر أبريل - 1985 - كان على مصر أن تظل محملة بأوزار نظام حكم فى السودان لم يعد خافياً منذ سنوات أن أغلبية ساحقة من شعب السودان ترفضه.
ويجىء يوم 6 أبريل وتنفجر الثورة فى السودان عارمة، و"جعفر النميرى" فى واشنطن ويقابله وزير الخارجية الأمريكية "جورج شولتز" وينصحه بالسفر فوراً إلى الخرطوم، وهو يعلم علم اليقين أن النهاية حلت لكنه يريد أن يتخلص من العبء قبل لحظة إعلانها. ويهرول "النميرى" خارجاً من واشنطن ماراً بالقاهرة متوجهاً إلى الخرطوم وفق نصيحة "شولتز" وقبل أن يصل إلى القاهرة بساعات قليلة تكون النهاية قد أصبحت إعلاناً من إذاعة الخرطوم ويقع على القاهرة عبء تبليغ "النميرى" بالحقيقة بأقصى قدر من الرفق به والحرص عليه. ويسأل وهو بعد فى مطار القاهرة عن المسئول الآن فى الخرطوم؟ ويقال له إن الفريق "عبد الرحمن سوار الذهب" رضى أن يرأس حكما انتقالياً حتى يتم إجراء انتخابات. ويفزع النميرى ولا يجد ما يقوله وهو يضرب يده اليسرى بكف اليمنى غير تكرار عبارة واحدة: "سوار الذهب.. سوار الذهب.. لكنى حلفته اليمين قبل أن أسافر". وكانت تلك غاية ما خطر له، كأن الولاء للأشخاص وليس للأوطان، وكأن الفريق "سوار الذهب" لم يكن مطالباً قبل أى عهد آخر بأن يستوعب الموقف الطارئ فى الجيش السودانى تفاعلاً مع غضبة شعبه، أو ينفرط عقد السودان كله: الشعب والجيش والأقاليم.
إلى هنا وكل شىء فى نطاقه العادى لكن الحكومة المصرية منحت حق الالتجاء السياسى للنميرى ضد إجماع سودانى يظهر - على الأقل - عدم ارتياحه.
وحق اللجوء السياسى مقرر، والتصريح به واجب، وإنكاره أو التردد فيه نكوص، لكن ذلك من أوله إلى آخره مرهون بشروط تستوجبه: بينها أن يكون التصريح بحق اللجوء السياسى متفقاً مع مصالح الدولة المضيفة وليس متعارضاً معها، وبينها أن يكون هذا التصريح قائماً على مبدأ يتصل بالحرية.
ولم يكن شىء من هذه الموجبات ينطبق - مع الأسف - على "جعفرى النميرى".
لا تستوجبه فيما أظن دعاوى الإمامة التى انتحلها ولا الإساءة إلى الشريعة الإسلامية العظيمة بما أجراه تحت ستار تطبيقها.
ولا تستوجبه فيما أظن مؤامرة نقل يهود أثيوبيا - "الفلاشا" - إلى إسرائيل خلافاً لمقتضيات الأمن القومى، خصوصاً إذا كانت المؤامرة بثمن، أى أنها لم تكن خطأ وإنما كانت خطيئة.
ولا تستوجبه فيما أظن حماقة إعادة السودان - شماله وجنوبه - إلى الطاحونة الدموية للحرب الأهلية.
ولا تستوجبه فيما أظن صفقته التى عقدها ورهن فيها موارد السودان - المنهكة والمنهوبة - إلى رجل أعمال سعودى يأتى على البقية الباقية منها.
والغريب أن الولايات المتحدة الأمريكية التى استفادت من حكمه أكثر مما استفاد غيرها من الدول لم يكن لها من هم فى لحظات حكمه الأخيرة غير تسفيره منها بتأشيرة خروج بلا عودة.
نفس ما فعلته الولايات المتحدة من قبل مع شاه إيران. ونفس ما فعلته بعده - فى الأسبوع الأخير - مع "جان كلود دوفالييه"، رئيس جمهورية هايتى. ولم تكن الولايات المتحدة وحدها هى التى اعتذرت لـ"دوفالييه" وإنما سبقتها إلى الاعتذار عن قبوله اليونان وحتى سويسرا ملاذ اللاجئين فى العالم منذ قرون.
والسبب أشرت إليه منذ لحظات وهو أن حق الالتجاء السياسى مشروط بما يستوجبه: ألا يتعارض مع مصلحة، وأن يتسق مع مبدأ من مبادئ الحرية.
ولقد كان الأغرب فى موضوع "النميرى" أن بعض وسائل الإعلام الرسمية فى مصر نشرت فيها ومنها ما هو عكس الحقيقة بهدف تشجيع قادة الخرطوم الجدد على زيارة القاهرة، هكذا نشر أن "النميرى" غادر مصر إلى وجهة مجهولة ثم تبين أنه فى مصر لم يغادرها على الإطلاق.
فى مطلع الصيف - صيف سنة 1985 - وقعت الحكومة فى خطأ لا يغتفر؛ فقد ذهبت فى اليوم الأخير من الدورة البرلمانية لمجلس الشعب بعشرات من مشروعات القوانين تطلب الموافقة عليها كلها فى ساعات معدودات، بدعوى أن أعضاءه مدعوون إلى حفلة شاى بمناسبة انتهاء الدورة فى القصر الجمهورى، وإذن فإن المجلس النيابى محاصر بالدقائق والثوانى. عشرات من مشروعات القوانين فى الصباح، وبعد الظهر حفلة شاى لها موعد مقرر فى قصر الرئاسة.
وأحس عدد من النواب أنهم وضعوا بين المطرقة والسندان فى مناورة لا يسمح بها المقام.
وضاقت صدور وتوترت أعصاب، وبدا كما لو أن الحكومة تستغل ما لا يصح استغلاله وتتزيّد على ساحة مؤسسة يحترمها الكل ويتطلع إليها الجميع فى رجاء وأمل لأن دورها فى مثل ظروفنا الراهنة هو نقطة الارتكاز والتوازن والتماسك فى الوضع كله، وبالتالى فإنها يجب أن تظل فوق كل الأطراف وبعيداً عن النزاعات وملاذاً لشعب بأكمله وليس لحزب معين أو حكومته.
وطوال شهور الصيف - سنة 1985 - كانت الحكومة تتصرف بما يدعو إلى التساؤل. فقد بدت نذر قلق من إجراءات وقرارات أحدثت أصداء غير مواتية فى عديد من المواقع: كفر الدوار - بورسعيد - وبر الإسكندرية وبحرها!
وحين كان الناس يتساءلون عما يجرى وغايته ونهايته؟ - كان الرد بأن التغيير الوزارى غير وارد، وظنى أن إحساس الناس بإمكانية التغيير أو حتى حديثهم عن احتمالاته هو فى جوهره رسائل موجهة لمن بيدهم الأمر مؤداها "أن الأمر فى حاجة إلى إعادة النظر"، والحقيقة أن مثل هذه الرسائل يصعب تفسيرها على أنها تجاوز من جانب الناس، أو استفزاز منهم لجانب سلطة القرار، وبالتالى فلا تكون مواجهتها بالضيق أو بالتجاهل، وإنما تكون المواجهة بالإقناع. أو بالاستجابة إذا تبين أن ما هو مفهوم من الرسائل مرجو أيضاً بالحق ومطلوب.
وفى شهر سبتمبر - 1985 - أعلن فجأة عن تغيير وزارى. ثم ظهر أن الذى تغير هو رئيس الوزراء فقط وأما غيره فالكل باق على مقعده باستثناءات قليلة. ثم قيل كلام كثير فى الشرح والتفصيل لم يكن معظمه مقنعاً أو على الأقل كافياً.
وكان شهر أكتوبر - 1985 - مزعجاً من أوله إلى آخره. فقد شهد كل مأساة خطف الباخرة "أكيلى لورو"، ولم يكن خطف الباخرة هو المأساة وإنما كانت المأساة أن الحكومة المصرية تطوعت فيما لم يكن لها به شأن، دفعتها إلى ذلك عوامل إنسانية كما قيل. خلصت الركاب وأخذت المختطفين وكان قصدها أن تسلمهم إلى منظمة التحرير الفلسطينية تحاكمهم وهكذا ينفض الإشكال. ولكن ما حدث فعلاً كان مختلفاً عن النوايا وانتهى كله بإهانة خطف طائرة ركاب مصرية بواسطة مقاتلات أمريكية وبأوامر من رئيس واحدة من الدول العظمى قادها بنفسه وكأنه يقود "حرب النجوم"!
وفى شهر نوفمبر - 1985 - وجهت الحكومة المصرية دعوة إلى "ياسر عرفات" ليزور القاهرة، أو لعله كان هو الذى دعا نفسه لكن الحكومة المصرية رحبت به. وحين جاء وفد مقدمته لترتيب الزيارة ظل فى القاهرة خمسة أيام لا يقابل أحداً ولا يقابله أحد. وحتى ساعات من وصول "ياسر عرفات" لم يكن أحد قد حدد له موعد وصوله ولا طريقة استقباله ولا أين ينزل ولا كيف يعامل، وفى أول يوم لوصوله نشرت أجهزة الإعلام الرسمية نبأ وصوله فى سطور!
وقرب نهاية شهر نوفمبر - 1985 - حدث اختطاف طائرة مصرية فى مالطة، ثم قررت القاهرة أن تتدخل بالقوة لإنهاء الاختطاف، وأعلن عن وصول قوة مصرية لتحقيق هذا الهدف بينما هذه القوة لم تكن قد وصلت بعد إلى مطار لوكا فى مالطة.
وجرى التدخل بطريقة تنقصها المعلومات، وتنقصها الحسابات.
ثم جاءت الطريقة التى عالج بها الإعلام المصرى وقائع الاختطاف من بدايته السيئة إلى نهايته المأساوية!
وفى شهر ديسمبر - 1985 - بدأت الضجة فى موضوع "سليمان خاطر". وليس موضوعى الآن أن أبحث ما إذا كان "سليمان خاطر" قاتلاً أو بطلاً، منتحراً أو شهيداً؛ فتلك قضية أخرى لها مجالها ولها مكانها. لكن موضوعى هو القرار السياسى فى شأن تطورات الموضوع وآخره استشكال الحكومة فى مطلب تشريح جثته وما رافق ذلك كله من تخبط كان الكل فى غنى عنه بل وكان ضمير مصر نفسه فى غير حاجة إليه. لكى أكون منصفاً، فلقد كانت هناك على وجه القطع نماذج أخرى غير ما عددت، أصاب فيها القرار هدفه وحقق مقصده، ولعل تلك النماذج الأخرى كانت تستحق اعترافاً أكثر بالفضل لأصحابه وتقديراً أوسع وأعمق للجهد المبذول.
لكننا مهما حاولنا لا نستطيع تجاهل أن ما استعرضناه وتأملناه من نماذج - مع العلم أنها مجرد نماذج - حرى به أن يلفت أنظارنا إلى قضية تستحق الالتفات. فعندما تتكرر الظواهر بنفس النتائج أكثر من مرة ومرتين وثلاثاً إلى آخره - فمعنى ذلك أننا أمام قضية تتعدى فعل المصادفات وتتخطاها.
نجد أنفسنا أمام تساؤل حقيقى عن عملية صنع القرار السياسى فى مصر.
ثم نجد أنفسنا أمام تساؤل حقيقى عن جدوى وفائدة احتكاك أو صدام بين القوى السياسية المختلفة فى مصر الآن معظمه كما أسلفت من سوء الفهم أو من خلط الأوراق والأدوار - وأليس صحيحاً أن عملية صنع القرار فى أى مكان فى العالم هى التى تضبط إيقاع الحوار فيه؟!
ثم نجد أنفسنا بعد التساؤلات، وهى مشروعة، أمام سؤالين بالتحديد - أولهما:
ما الذى يعترض القرار السياسى فى مصر؟
"هناك على وجه التحقيق شىء أو أشياء تعترض مجرى القرار السياسى فى مصر، وهذا الشىء أو الأشياء لها على وجه اليقين أسباب موضوعية، وإذا جاز لنا أن نقول، والقول صدق، إن القرار السياسى المصرى الآن ليس سلسلة متصلة من الأخطاء فإنه من الأمانة أن نقول فى نفس الوقت إن هناك نسبة ملحوظة من القرارات تستوجب المناقشة والمراجعة وإمعان النظر".
السؤال الثانى:
وما الذى يمكن عمله لإعطاء كل الضمانات لسلامة صنع القرار بعد سلامة نواياه وصدق دواعيه؟
"لأن كل مشكلة موضوعية ينبغى أن يكون لها حل، التجارب تعلم الناس أن كل مسألة معقدة تحمل فى ثناياها مفاتيح حلها إذا استطاعوا بالصبر والتركيز والفكر أن يتأملوا ويدرسوا وينفذوا من السطح إلى الأعماق".
لابد من إجابة على هذين السؤالين، بدقة وأمانة.. وبدون حساسية أو حرج. فعندما يتولى واحد من الناس مسئولية عامة فليس أمامه غير أن يعتبر نفسه ملكية عامة.
أقولها بتقدير عميق واحترام.




Comments